الأربعاء، 27 أبريل 2011

تكست: العدد 11 و 12 - في السرد الافتراضي .. صناعة مدينة متخيلة كتب زهير الجبوري


في السرد الافتراضي .. صناعة مدينة متخيلة


(المقامة البصرية العصرية) ـ إنموذجاً ـ


* زهير الجبوري








تقف الكتابة الروائية المعاصرة على مفترق الطرق ، منها ما يتمتع بمزايا الانفتاح السردي عبر نوافذ اللغة السردية المفعمة بالتجدد المضموني ، ومنها ما يفتح نوافذ اللّعب بمخيالية قابلة للتأويل والبناء ، ومنها ما يقوم به الروائي من شهية عالية في اللّعب في منطقة (ما وراء السرد) ، والسمة هذه أنتجت متعة واضحة لدى العديد من الروائيين العراقيين وهم يقومون على بناء شكل سردي / روائي ، كما تدخل التقنيات الأسلوبية في الكتابة الروائية المعاصرة على إنهاض المهارات السردية المخلخلة لنظام النسق المألوف، بغية صياغة شكل له تقنياته الممحورة بما هو مجازي وقابل للتلقي ..








وحين نقف على سلطان الرواية الموغلة بالحس التاريخي ، تشدنا العلاقة الحميمية الى قراءة النتاج الروائي المستخلص من حقيقة لها أبعادها التاريخية والإنسانية والمكانية، أو كما يقول ( د. عبد الملك مرتاض ) : ( لعلها كانت مجرد مرحلة كانت الرواية فيها لا تفتأ غير واثقة من نفسها ، ولا موقنة من جمالها الفني ، وسلطانها الأدبي المثير ، فكنا نلفيها تعول تعويلا شديدا على أحداث التاريخ) (1) . وقد اشتغلت الرواية المعاصرة على استعادة الماضي عبر نافذة اللّغة بكل مكوناتها العلاماتية والنحوية ، وذلك لخلق شكل فني أكثر بروزاً وأكثر حضوراً وتذوقاً ، وهو بحد ذاته يعد ديمومة فاعلة داخل إطار النسق الكتابي الحديث ، وما صرح به (امبرتو ايكو) قائلا (2): إن ماضي الديمومة هو زمن بالغ الأهمية لأنه يشير إلى الاستمرارية والتوتر . فهو استمراري لأنه يخبرنا أن شيئاً ما حدث في الماضي .






ولعل ابرز مقومات الرواية التي تستنشق صفحاتها التاريخية من الماضي ، هي التي تركز على كشف العلاقة المتناظرة بين المقياس التاريخي الذي له أطره الوثائقية الثابتة ، وبين الصياغة الفنية الجديدة لهذا المقياس التاريخي ، بمعنى ثمّة خرق فني في الكتابة السردية / الرواية ، خرق يعتمد على المهارة المقنعة في النتيجة النهائية ، وهذا ما فتح لنا عملية الخوض في تجربة احد الروائيين العراقيين الذين استرخت تجربتهم على قراءة المكان / المدينة عبر زمنية مستعارة ، انه الروائي الكبير (مهدي عيسى الصقر) وروايته (المقامة البصرية العصرية / حكاية مكان) .














ـ 2 ـ

تسعى رواية (المقامة البصرية العصرية) لأن تصوغ الواقع المكاني عبر زمانية تأريخانية مفتوحة ، فلم يجد المؤلف (الصقر) سوى الأسلوب الافتراضي المشبع بدلالات مخيالية صريحة ، وهي لعبة فنية واضحة ، لكنها مقنعة بسبب المطابقة التماثلية بين الماضي البعيد والماضي القريب على جغرافية مدينة لها عمقها التاريخي ، الا وهي مدينة البصرة التي أشار أليها المؤلف في العنوان بـ (حكاية مدينة) ، والشيء نفسه ينطبق على الشخصيات المتناولة ، كلّها لها وجودها وحضورها المعرفي الواضح ، لكن عملية اللّعب بالأشخاص جاءت بمطواعية الروائي لتحقيق قصديه بنائية داخل الرواية ذاتها ..






اللّعبة الإفتراضية في مضمون الرواية ، أحالت القارئ إلى قناعة مجازية .. قناعة إنطوت على ضوابط الكتابة المدركة على متخيلات متكررة في إطار المشاهد وجدلية الأحداث المتداخلة في ثنائية الزمان والمكان ، إنها قبل كل شيء لعبة (ما ورائية) ، فلم تكن البنيات السردية إلاّ أدوات فعلها الروائي بحبكة فنية مقنعة ، فحين أراد (مهدي عيسى الصقر) الدخول الى مدينته بعد غياب سنين عديدة ، جعل استهلالا اوليا ً عبر نافذة (الدخول) قائلا : (من أي باب أدخل إليك ، وأبوابك مشرعة على البر والبحر والسماء !؟) ص5 . استخدم الروائي استحضاره السردي عبر متخيل كاذب ، وعبر تداعيات ممنتجة سردياً ، فكانت الانطلاقة الاستهلالية الأولى على درجة واضحة لفكرة الرواية ، فالروائي يريد ان يكتب رواية داخل روايته هذه ، أو بالأحرى يريد إكمال ما جاء به الإمام أبو القاسم بن علي الحريري البصري من مقاماته البصرية .








ولعل الجانب الأساسي في التركيز على مقامات الحريري واستحضار كاتبها ينطوي على أهميتها التاريخية ودلالاتها المعرفية (من جهة) ، ولكونها كتبت في المدينة التي ولد فيها الروائي ذاته (من جهة ثانية) ، كما ان مقامات الحريري هي التي أصبحت المثال الذي احتذاه من كتب المقامات بعدهم (3) ـ كما تقول سيزا قاسم ـ .

ـ 3 ـ

تسعى تجربة (الصقر) في حكايته ( المدينية) هذه إلى إبراز نسق سردي / حكائي خاص ، نسق يعتمد الوصف بإعتباره مرجعاً له دلالاته المكانية والسيرية ، مما فتح منافذ اللّغة على منطقة أكثر تقبلا وتأويلا ، ربما لأنه على قناعة بأن ما يدور في إطار المكان يخضع لمرونة الزمن بأساليب متنوعة ، فهل هي سيرة خالصة .. أم وصف حكائي لسيرة.. ؟ (جان ريكاردو) يوضح ذلك ويقول : (بما أن الوصف يوقف سير الأحداث ، بعد ان علق الزمن ، أليس من غير المعقول أن يكون هذا الثبات قد أحيته الأساليب المصطنعة ، هذا هو الوصف الحكائي diegetisee وضع حكاية مضللة . وهذا الغش ، كما نعرفه ، هو نتيجة اثنين من الإجراءات الرئيسة . إنشاء لمنظور مرتب بشكل تاريخي وهمي متسلسل chronologique باللّجوء إلى الظروف الزمنية )(4).








من هذا المنطلق يتأسس رأينا النقدي على المرجعية السردية الأولى (مقامات الحريري) بوصفها مرجعاً أوليا ينطوي على تأريخانية مدينة ، ثم الإنطلاق عبر مرحلة زمنية طويلة إلى إتمام ما جاءت به المرحلة الأولى بكتابة المقامة اﻟ (51) للمؤلف المعاصر (الصقر) ، وكأنه يريد القول بأن الوحدات المفقودة بعد (الحريري) ، الآن تدون لتطرح نفسها .. لكن أدوات الكتابة وفنون السرد فيها أجاز الكثير من المتعة الإلقائية وكيفية إحياء الأساليب المصطنعة ..








(مهدي عيسى الصقر) ، وظف أدواته السردية داخل الرواية لبناء شكل كتابي مغاير ، شكل يعتمد الصياغة الفنية الافتراضية ، بطريقة تتشبع فيها الحيوية المتجددة ، خصوصاً ان هناك استوقافات كثيرة انطوت على صياغات مجازية مقنعة ، هذا ما يفتح نوافذ عديدة لحركة السرد الروائي الحديث ..

ـ 4 ـ

المدينة .. (رواية مغايرة)




يقول (بيرمي لبوك) في كتابه (صنعة الرواية) وهو يضع اعتراضاً افتراضياً : (ان أي محاولة لتفكيك عناصر الرواية تؤدي إلى إتلاف الحياة فيها ) (5) .. والمسعى الواضح الذي بان في الرواية المقامية هذه ، تكرس حول إعادة قراءة مدينة وفق تراجيديا فيها الشيء الكثير من الأبعاد المخيالية التي اعتمدها الروائي تحت إطار ما يسمى بـ (ما وراء السرد) ، فهناك العديد من الروائيين الذين صاغوا تجاربهم السردية لمدنهم الفاضلة و بأساليب متنوعة ، و (الصقر) كان حريصاً جداً في تعامله مع اشيائه لكي لا يبعثر وحدة موضوعه ، وكأنه سمع (لبوك) أثناء كتابته الرواية ..








لذلك ، انطوت عتبات الرواية على مناطق (مبأرة) وفق تعدد واضح للاستهلالات المبنية على منافذ للدخول الى موضوعات تشكل جميعها وحدة كاملة وفاعلة ، كانت تسير بتصاعدية واضحة ، انطلاقاً من نافذة (الدخول) ثم (المدينة) ، وصولاً إلى النقطة الأهم (مهرجان المدينة) ثم (المقامة البصرية العصرية) ، كلها تحمل القصدية الفاعلة والمؤثرة في البناء الروائي ، رغم ان أسلوبية الكتابة قد اقنعتنا كثيراً بأن ما يدور في عالم ال (ما وراء) يمكن ان يستحضر ويطبق سردياً ..








وإذا ما أخذنا بنظر الإعتبار ان عملية خلق رواية بمواصفات حديثة يشكل في حقيقته إزالة ما هو مألوف في البناء (الكلاسيكي) ، فإن الاستكشاف والتطبيق يلعب دوراً فاعلاً في إدراك ما هو جديد ، فالعوالم المخيالية التي تدور في ذهنية السارد / الروائي ، تساهم وبشكل فاعل في نتاج فني روائي محسوب ، إذ ( لا يعد خلق الرواية فحسب نوعاً من حلم اليقظة ، بل قراءتها أيضاً ) (6) . وهذا الإتجاه في الكتابة الروائية لم يعد يشكل صدمة مؤثرة مثلما كانت النتاجات الروائية في العقود الماضية ، بل أصبحت أمراً في غاية التقبل ، والسبب الجوهري ، يعود للتقنيات الإعلامية الحديثة ، هذه التقنيات أسهمت وبشكل واضح في جعل الذهني والمخيالي والمرئي ، يجسد بوصفه واقعاً فنياً خاضعاً للمتعة المقبولة ، هنا تكمن مهارة ( السارد / الروائي ) في معالجة وتقريب الواقعي بالتاريخي ، كما فعل (الصقر) ..




ـ 5 ـ

لعل الميزة الأهم التي صادفت الروائي في كتابته للرواية ، انه اسلخ من متنه السردي شخصية محورية ، جسد خلالها مبتغاه المعهود في بناء رواية ذات صفات متجانسة للعديد من الأبعاد المضمونية ، بعد كسر إطار التوقع ، بمعنى ثمّة علاقة حميمية حصلت بين المتلقي والبطل الروائي الذي يتمتع بسيرة تاريخية كبيرة ألا وهو (الشيخ الإمام أبو القاسم الحريري) صاحب المقامات الـ (50) الشهيرة ، (الصقر) ربطنا بإسلوبه السردي الافتراضي منذ البداية واقنعنا بكل ما جاء به من دلالات مجازية شهية ، وكأنه يعلم بأننا أدركنا بأن هناك تطابقاً تاماً بين الواقعي المباشر وبين المتخيل الواسع ، (ذلك ان السرد لم يكن منذ وجد الاّ وسيلة للإيهام بالحقيقة ) ـ كما يقول (د. عبد الله إبراهيم ) ـ ..

في الصفحة رقم (6) تظهر العلاقة الأولى بين الروائي وبين الشيخ الحريري ، وهي علاقة دارت ضمن اطارات مجازية مفعمة بالإحالات القابلة للتداول ، هنا تلتقي الشخصيتان بعد الإهمال الواضح للزمن ، إذ ليس له قيمة في هذه اللّحظة ، (استدرت إلى المتكلم ، وهتفت مسروراً ، وأنا أنهض احتراماً : - من !؟ مولانا الشيخ الإمام أبو القاسم بن علي الحريري ! ) ص6 .








يضاف إلى ذلك ، الحيز الذي أخذته الشخصية المستحضرة منذ بداية الرواية ، لتعطي مفتاحاً واضحاً للدخول الى المبتغى المعهود لقصدية المعنى الروائي ذاته ، حتى ان (رولان بارت) عرف هذه الشخصية بأنها (نتاج عمل تأليفي) ، بعيداً عن جميع الخصائص والمرجعيات الفنية .








ومن صميم الحفر النقدي ، وجد العديد من النقاد بأن التصور العام للشخصية السردية في الأعمال الروائية أو القصصية يجب ان تكون متعددة الوجوه ، اذ تنطوي القراءات على وفق ضرورات تحليلية متناظرة مع الجنس الكتابي ، فحين نتناول شخصية لها عمقها التاريخي والمعرفي مع شخصية معاصرة أخرى ، إنما تدخل في عمق العملية الإبداعية ، وكأن ما قدم سابقاً ويقدم الآن يلتقي في بوتقة واحدة ، وهذا ما أراد أن يبنيه (مهدي عيسى الصقر) في المقامة البصرية العصرية ..






ولأن الشخصية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحدث ، فقد تجسدت مراحل (المقامة البصرية العصرية) على خطوات المدينة المقصودة (البصرة) من خلال العلاقة الوثيقة بين (الراوي/الروائي) والشخصية المستحضرة (الشيخ الحريري) ، بعد التجوال في المدينة والذهاب الى مكتبة الجوهري لصاحبها (كاظم الجوهري) والذهاب الى تمثال السياب والحديث حول تجربته الشعرية وموته في الغربة ، وكيف تنبأت العرافة عن موته الغريب، وأيضاً عن موت محمود الشاعر مقتولا ً ، وعن عزوف الزواج للقاص محمود، وما الى ذلك ..






فتحت الرواية نفسها أمام القارئ لتنطلق صوب بناء عالم له مدلولاته السياقية الولادة للبنى الحكائية ، انها تعتمد الإحالات المسترخية للتكثيف الزمني ، مما سمح باستحضار واستخدام الشخصيات المتناوبة بمرونة واضحة على صعيد البناء الفني ، وإنتاج نص سردي له تعالق كبير والواقع الذي نعيشه ، والشيء الأكثر انتباهاً في مقامات (مهدي عيسى الصقر) ، انه مازج شخصيات من مختلف الاجيال ومختلف الثقافات ، فمثلا عندما يقوم باستدعاء (السياب) وانزاله من تمثاله بدعوة سهر بصرية ، هي التقاطه معبرة عن بناء مشهد روائي يحمل دلالات انزياحية مقصودة ، وهي من اشتغالات السرد الافتراضي .. السرد الذي يقبل البناء على ضوابط مجازية : (قلت له : بدر لم لا تفارق رداءك المعدني هذا ، وتغادر قاعدتك ، وتأتي معي نجلس قليلا في شرفة (فندق جبهة النهر) كما اعتدنا ان نفعل في الاماسي أحياناً ، في تلك الأيام التي مضت ؟ لم يجب .. ظل يفكر .. قلت اشجعه : وبوسعك طبعاً ان تشرب قنينة أو قنينتين من البيرة المثلجة !! قال ضاحكاً وتأكل انت (المزة) كلها ! عرفت أنه سيأتي . طلب مني ان اسبقه . قال انه سيلحق بي عندما يهبط الظلام .) (ص85) .






ـ 6 ـ

المدينة بمنظور سردي






حين ركز الروائي في (مقامته) هذه على ان الرواية تمثل (حكاية مدينة) ، فقد قادنا إلى الغور في أعماق المكان / المدينة ، عبر دلالاتها المعاصرة والمكونة ، لنجد تفاصيل متداخلة لمركز المدينة وبقية الامكنة المجاورة لها بعد سياحة منتظمة يقوم بها الروائي برفقة الحريري ، لتشكل في مضمونها عملية كشف واضحة في الحضور السردي الافتراضي الذي قصده (الصقر) ، نحو التركيز في السياقات المخيلة لإستحضار ما يمكن استحضاره في النص السردي الحديث ، فعند الوصول إلى (ابي الخصيب) وجد الشيخ الحريري مخلفات الدمار والنخيل المقطعة رؤوسها

قال حائراً : ( ما الذي جرى هنا !؟ ) :






- الحرب يا مولانا ! (ص99)




صحيح ان الوصف هنا جاء (منظوراً) لمكان معين ، لكنه يحمل قصدية دقيقة للضيف / المستحضر ، بمعنى ثمة تمفصلات جديدة ظهرت في المدينة (البصرة) لم تدخل إحصائيات الحريري في مقاماته المألوفة ، فالحرب ومظاهر الخراب وغيرها من التفاصيل تحتاج إلى تدوينية جديدة أو مقامة جديدة ، فهل يعد ذلك احصاءاً قاطعاً ، (فاليري Valery) كتب يقول : (ان كل وصف يقتصر على إحصاء أجزاء أو مظاهر عديدة لشيء منظور) (7)


ولا نريد التركيز على عناصر الرواية من حيث استهلالها بقدر ما نريد التركيز على المكونات الأساسية التي اشتغل عليها ، فكل رواية لها ضوابطها الفنية ، لذلك تقف المدينة في ( المقامة البصرية العصرية) على عتبات مكانية منضبطة ، في الوقت الذي تنوعت فيه عناصر الشخصيات المنتمية لهذا المكان ، مما يعطينا قناعة تامة فحواها ان المدينة ميدان واضح للّعب السردي ، ذابت في مكامنها كل الوظائف والاليات والافكار المغروزة في المتن المكاني ..

ولكن كيف يمكن ان نصف مدينة لها خصائصها المكانية الحساسة في عالم الرواية ؟ .. كيف نعطي لها أدواراً فعالة داخل إطار المتن السردي ؟ .. كيف يصبح الإلمام بالجوانب المؤثرة فيها من حيث مكوناتها الجمالية ؟ .. (على الكاتب ان يلم بكل جوانب المكان ، لغته الآتية من الأثر ، وصوره المتخيلة ، وادراكاته ، وأبعاده الدينية والطقسية المستعادة، وتأريخه ، ومكوناته الاجتماعية ، وعلم نفس المكان ، وتراكيب بلاغة صوره ، وطبيعة الناس الشاغلين له ) (8)








عملية كشف الأماكن من قبل (المؤلف / الروائي) ، هي عملية تمرير مسترخية للشخصية المستحضرة وللمتلقي معاً ، هدفها الأساس يظهر في النهاية ، وكأنه ـ أي الروائي ـ يريد ان يبرهن أن المقامة التي كتبها انطوت على الشواهد المسرودة ، وجاءت على قناعة تامة مع متعة الوصف وطريقة سرد الأحداث التي تشبعت بشفرات مجازية ، ثم كشفت الأحداث عن أهم مكونات المكان ومسمياته ، وكذلك اللّهجة (الدارجة) أو العامية ، وأيضاً الزي الذي يرتديه الناس في الوقت الحالي ، بالإضافة إلى العادات والتقاليد الاجتماعية المعاصرة ، كلها أعطت انعطافة أساسية في بناء الفقرات الروائية (المبأرة) ، مع الاعتراف بأن الاشتغال على العلامات المتحررة ، قد استحدث دلالاتها عبر أسس تجريبية هيمنت على البناء الفني من خلال إقحام فقرات الرواية بشتى أدوات الكتابة البيانية في (السجع) و (الإيقاعات المرادفة) خاصة في الفقرة الأخيرة من كتابة المقامة ، وأيضا كان لإمتزاجها مع الكتابة السيرية الدور الفاعل في إبراز العديد من الخيوط المتداخلة للماضي بكافة مراحله ، والحاضر المعاصر بكل دقائقه ..








ففي فقرة (رحيل آخر شاعر !) ، تنهض ذاكرة الأشياء في مكتبة (كاظم الجوهري) بعد استحضار رسومات الواسطي الذي يضم شخوص المقامات الحريرية ، وهي انعطافة مهمة لخلق نمط كتابي بإفتراضية سردية من هذا النوع : ( نهض الشيخ كاظم وقصد أحد الرفوف ، استل منه كتاباً متوسط الحجم . هذا يا شيخنا كتاب رسوم الواسطي ! فتناوله ضيفي من يده متلهفاً ، وراح يتأمل الرسوم معجباً) (ص53) .








لكن قراءة اوراق الشاعر الراحل (أحمد) الذي فارق البصرة وضيع نفسه ، فيها شيء من (الكولاج) داخل الفقرة هذه ، على الرغم من بنائها المتوازن ، إلاّ انها عكست مشهدية متناظرة مع ما أراده الحريري في مكتبة الجوهري .

ـ 7 ـ

( المدينة وصوت الشعر )





حين يتركب العالم المتخيل في الرواية (المدينية) اثناء تطبيق خصائصها المنتجة فيه ، تدخل في اطره العديد من الدوائر التي تتفاعل وتنتج خطاباً ثقافياً (موضوعياً) له ضوابطه الراكزة ، فالمدينة نظام شامل لكل الأحداث ولكل الدلالات الفاعلة في (السسيوثقافي) و (السسيوسياسي) ، واذا ما اخذنا بنظر الاعتبار ما تقدمه (المقامة البصرية العصرية) من خيوط متمركزة على الخصائص النادرة ، فإنها تتيح القدرة على إقتناص الأحداث وفق استرسالاتها المتعاقبة والمفتوحة على نوافذ متفاعلة .. انها نوافذ محبوكة ولها تأثيراتها المباشرة ..






في فقرة (مهرجان المدينة) ، حيث تقام انشطة المهرجان في منطقة (العبلية) وسط أجواء الريف والنسمات الباردة في بستان الأستاذ محمد جواد جلال ، وظهور أجواء الاحتفاء بالضيوف ، حيث (شاهدنا أيضا مجموعة من الأطفال ، بناتاً ، وأولاداً ، من تلاميذ المدارس الابتدائية ورياض الأطفال ، بثياب ناصعة البياض ، معهم ثلاث معلمات يحاولن جعل الصغار يمشون في شيء من النظام ) (ص138) . نلاحظ كيف أعطى السرد الروائي مرونته بمهارة واستخلاص ، ثم الإلحاح في عملية الاستدعاء المتكررة للشخصيات ، حيث يفتح السرد نفسه أمام (افتراضات) المؤلف ، ليحضر الصحابي الجليل مؤسس مدينة البصرة (القائد العربي الكبير عتبة بن غزوان) ثم يبدأ المهرجان بتفاصيل مألوفة ، والشيء نفسه في فقرة (أمسية الشعراء) عندما يستدعي عريف الحفل (الجليل الخليل بن احمد الفراهيدي ، العلامة الذي شق للشعراء بحوراً يبحرون فيها ) (ص180) وأيضا ( رموز شعراء البصرة الأوائل الحسين الضحاك وبشار بن برد والشاعر المشهور أبو نواس الحسن بن هاني ، ومن شعرائنا في هذا العصر بيننا أسماء تعرفونها : معنا سعدي يوسف ومحمد سعيد الصكار وكاظم الحجاج والشاعر كاظم نعمة التميمي) (ص180) . لتقرأ بعدها النصوص ويقام الاحتفال بهذه التراتبية ..





ولعل صوت الشعر والتركيز عليه في كتابة تاريخ المدينة ، ينطلق من مبدأ العمق الكبير والملموس في صناعة الشعر العربي عبر المراحل الزمنية لقرون عديدة وصولا إلى المجدد (السياب) والى يومنا هذا .

ـ 8 ـ




المدينة والمقامة

نستخلص في المحطة الأخيرة للرواية المقامية هذه ، تجربة المؤلف وهو ينتج بمهارة فاعلة وراكزة المقامة الـ (51) ، وقد عكست في مضمونها الأحداث التي جرت بعد وفاة الشيخ الحريري ، فكانت محطة نصية (مسجعة) ، فالمقامة هي لعبة لغوية ومهارية ، هدفها الكشف عن (سيرة) أو (مدينة) أو (حكاية) ، الخ .. بمتعة العروض المشهدية عبر لغة لها ثراؤها الممتع ، وقد أتفق العديد من الباحثين في هذا المجال بأن (المقامة حكاية عربية مسجعة ، مثقلة بالمحسنات البيانية ، والفوائد اللغوية الأدبية والأحاجي النحوية) ..






وتأتي التبريرات السردية من داخل الرواية ذاتها ، بأن (مهدي عيسى الصقر) قدم هذه (المقامة) هدية للشيخ الحريري بمناسبة مرور أربعة عشر قرناً على تمصير مدينته (البصرة) ، وهي تحمل دلالات فنية قائمة على قصدية كتابة المقامة ، بمعنى هناك تماثل موضوعي في ما جاء به الشيخ الحريري والروائي الصقر ، تماثل ذكي ومقنع ، وكأن الافتراضية (المجازية) لكتابة المقامة الاخيرة تشكلت بين الطرفين ، ونشعر أحياناً بأن (المونتاج) السردي ، واضح المعالم ، وان استحضار كل ما في بطون الكتب والمصادر الاخرى بطريقة فنية ، قد ساهم في صناعة المقامة الأخيرة ، وما على المتلقي إلاّ ان يستمتع بما قدم من فن كتابي صيغ بإفتراضات سردية واضحة .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



(لهوامش ) ـ

ــــــــــــــــــــــ

1) د. عبد الملك مرتاض / في النظرية الروائية / بحث في تقنيات السرد (ص31) / عالم المعرفة

2) امبرتو ايكو / 6 نزهات في غابة السرد / ص34 .

3) سيزا قاسم / القارئ والنص (العلامة والمدلالة ) ص135 .

4) جان ريكاردو / ت : كامل عويد العامري / القضايا الجديدة للرواية (ص37) .

5) حميد الحمداني / بنية النص السردي / (ص14) .

6) مايك بوتر / ت : خالد شاكر / الثقافة الأجنبية / العدد الأول 2009 / (ص54) .

7) المصدر الرابع نفسه (ص41) .

8) ياسين النصير / المكانية في الفكر والفلسفة والنقد / كتاب حواري من قبل (زهير الجبوري) (ص43-44) / دار نينوى للطباعة والنشر / دمشق 2008 .




* ناقد عراقي

العـــــودة للصفحة الرئيسة - العدد المزوج 11 و 12


العــــــودة للصفحـــة الام - تكست جريدة شهرية ثقافية مستقلة


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق