الاثنين، 25 أبريل 2011

تكست: العدد 11 و 12 - في الشعر و استعادة الحياة - كتب طالب عبدالعزيز


في الشعر وإستعادة الحياة






*طالب عبد العزيز






أجد في جملة جان كوكتو ،التي أوردها الصديق شاكر لعيبي في مقاله المنشور في عدد نثر المزدوج - شتاء 2011:( الشعر ضرورة ،وآه لو أعرف لماذا) مدخلا معقولا للحديث عن الشعر اليوم ،الشعر الذي ندافع عنه، نحن، الشعراء ،ويعبث بروحه ويستهجنه كثيرون من حولنا ، كتابة وتلقيا،فيما تُسهم المؤسسات ،(سياسية واجتماعية ودينية.. ) بشكل واضح في ترسيخ العبث والاستهجان هذين،في وقت تنشغل المؤسسات الثقافية- التعليمية ، هي الأخرى بتصوراتها الغبية جدا ،بعيدا عن معاني الثقافة ودواعي الوعي، أو العمل على ترسيخ قيم الجمال ،لأنها لم تعد تخطط لبناء مجتمعاتها ،على وفق ما تقتضيه القيم تلك .




وقد لا نجد ضرورة هنا ،للحديث عن طرائقنا في الكتابة ،أو فهمنا للشعر الحديث وقصيدة النثر.. لكننا نرى أن الحاجة تقتضي منا الحديث في المحاولات الجادة، في الذهاب لأهمية الشعر في حياتنا،من جهة ثم المهالك،التي تواجه الشعر،من داخل الشعر نفسه،وما يتعلق في فهم الناس له اليوم،من جهة أخرى،بل ما أحوجنا للحديث عن ما آل إليه الفهم هذا،ولماذا أصبح الشاعر الحقيقي يلوذ بنفسه ،كي لا يقال عنه شاعر،- وأنا هنا أعلن عن نفسي خاصة ،بأني لم أقل عن نفسي شاعرا أمام أي مخلوق، منذ أكثر من 20 سنة- ، لعملي بصورة الشاعر في أذهان الجميع، بعد أن صار كار كتر عبد الرزاق عبد الواحد وشعراء الحرب ،خلال حرب الثمان سنوات صورة الشاعر (المادح ،المتملق ،المستجدي ،الراقص على الدم...،ثم النائح على الوطن (الذبيح) أو على أبنائه المقتولين في حروب الطوائف،أو الساخر من الحكومة، وفسادها الإداري والمالي،في عودة واضحة لأغراض الشعر التي عرفناها ،في الفترة المظلمة، بأدق تعبير.






ويستطيع المتتبع لتقلبات الوعي في العراق والمنطقة العربية ،أن يؤرخ لبداية النخر في جسد الشعر وتقبله ،في عصرنا العربي الحديث،-لأنه المرئي والمعاين منا اليوم –أقول يستطيع منذ أن أوهم الشاعرُ العربيّ نفسَه، ومعه إنساننا البسيط ،بأنه قادر على تحرير الأرض وطرد المستعمر بالقصيدة ،فكانت مرحلة شعر المقاومة في فلسطين ولبنان ومن ثم حرب العراق مع إيران ،حتى مقاومة الاحتلال الأمريكي في العراق، أيضا ،العصا التي ساط بها الساسة والجهلاء قفا الشعر، ومعه كل قيم العلم والجمال والبحث عن الجوهري ،وقد يغضب الكلام هذا كثيرين منا، لكن نظرة متأملة لما وصلت إليه قناعات الإنسان العربي، وتدني مستوى التلقي لديه تكشف عن ما هو أعمق من ذلك،إذ من الخطأ الفادح ربط الجمالي بالسياسي كما هو حاصل في عموم تصورنا للشعر والثقافة ،والتي هي بتعبير شاكر لعيبي : (علاقة شعرية سوسيو –سياسية) .






بعد سنوات ليست بالقليلة من تسطيح المشاعر تجاه ما هو وطني- مقاوِم –أيديولوجي تمكنت الميديا وبتآمر البعض من المثقفين ،من سلب الشعر مقصده الحقيقي،صوته النبيل ،لتحوله إلى صورة ،وتشوهه داخل مختبرها كما يفعل الـ(فوتوشوب) بالرسوم هذه الأيام، ثم تحققه ،كيف ما تشاء،على هيئتها ،وكيف ما تقتضي المصلحة (العامة) وهكذا ،وفي غضون الخمسين سنة الماضية فقد الشعر مَقامه كموجّه لرفعة الروح، والسمو بها إلى ما هو جوهري ونفيس،أو الارتقاء بها من الأرضي إلى العلوي،وهو مبتغى الشعر عبر الأزمان،ليصبح أداة ضد نفسه ،ضد كل قصد نبيل فينا،حتى صارت أسماء كبيرة في ثقافتنا لا تُتداوَل إلا في تجمعات ثقافية صغيرة ،في مبان محصورة ،فيما تدوّي أسماء سياسي الصدفة والبرلمانات العاطلة وقادة المليشيات جنبا إلى أسماء مطربات وراقصات قناة القيثارة .






وفي المقابل ،تبتهج المؤسسة السياسية ومثلها الدينية بوقوف العشرات من الشعراء (الفصحاء والشعبين) على منابرها،منشدين قصائدهم عن البطولات والأمجاد والحديث عن الشرف والدم المراق على الجانبين ،من أجل العفة وتقديس الرموز ،ملهبين الجماهير التي راحت تتمايل وتنوح وتصفق...وفي ظنهم أنهم يؤسسون لقيم عليا داخل الشعر،أو أنهم تمكنوا من جعل الشعر،(أي شعر) بمتناول الجميع،لأن الشعر ديوان العرب،والعرب أمة شاعرة في المهد،والصومال تسمى بلد المليون شاعر... غير مدركين أو مدركين (الله أعلم )،إنما هم يُجهزون بذلك على ما تبقى من جوهر الإنسان وحقيقة حاجته للشعر،هم يقتلون غايته، التي افتقر وتعذب ومات من أجلها العشرات من الشعراء الحقيقيين،عبر تاريخنا الإنساني .






وأضيف بأن ما تقوم به محطات الراديو وأجهزة التلفزيون خلال برامجها(الثقافية) جريمة بحق الشعر والثقافة والفنون،وما يسمح به مقدمو البرامج التي تُقدم على الهواء ( الشعر الشعبي عادة) أبشع من الجرائم البيئية -الإنسانية،وكذلك ما تنتهجه بعض وسائل الإعلام الأخرى مثل الصحف والمجلات والمطبوعات باسم الشعر والثقافة،ومن يتلمس تأثير ذلك على المدى القريب والبعيد، يحق له أن يصرخ قائلا : أوقفوا هؤلاء،أمنعوهم من قتل الشعر، من طمس معالم ثقافتنا،من تدمير أبنائنا ،ومن يفتش في هواتف طلابنا الجامعيين وحواسيبهم يصاب باليأس، مِنْ عدم وجود مَنْ يُحسن بينهم قول جملة عربية واحدة ،لأن الدارمي والأبوذية والزنجيل والميمر .... غالبة أبدا على لغة القرآن والحديث ونهج البلاغة وجرير والفرزدق والرصافي والجواهري والسياب ...أما إذا أسمعتهم أسماء مثل سعدي يوسف ،أدونيس ،إنسي الحاج ،سركون بولص .... فأنت تتحدث بلغة قوم يجهلون .






لذا أرى،بأنه، ما لم تبادر المؤسسات مجتمعة إلى إعادة إنتاج الحياة على أساس شعري ،بعيدا عن منطقها الحالي في التحطيم،ما لم نعد بأطفالنا في المدرسة إلى حفظ قصائد التغني بالشجر، يميل على بعضه ،مع نسائم الصباح الندية الباردة ،وصورة القمر الفضي وهي تذبل على صفحة النهر ، وتكتكات المطر على النوافذ، والبلابل بين الغصون...،بعيدا عن التغني بالوطن العظيم ،الزائف ،بالقادة التاريخيين،الذين خيبوا آمالنا على مدى وجودنا على الأرض ، ما لم نبعدهم عن البندقية والسيف ورائحة الدم التاريخية في قلوبهم،ما لم نخرج بصبياننا من ثقافة التطبير والصنوج والدفوف إلى موسيقى البحر الأزرق وفيروز وياني وأصوات منشدي فينا وروما الأوبرالية .. ما لم نجعل من أقلام التلوين وعلب الزيت والورق الملون والكمانات والمزامير بمتناول الجميع،ما لم نسمعهم شعر الغزل في المتوسطة والثانوية ،ما لم نعطهم الدروس الأولى في معاني الصداقة وخُلق الحب والوفاء والتضحية من أجل المحبوب،ما لم نفههم الجنس وأهميته في حياتنا،ما لم نفعل لهم الكثير من ذلك ، ما لم نؤكد لهم بأن الحياة أقدس وأهم بكثير من الموت ،لن نطهّر أرواحهم ،لن نجعلهم يشعرون بقيمة فتوتهم ،بمستقبل آمالهم ،وبأهمية وجودهم الإنساني .




حين تبدأ مؤسساتنا مجتمعة التفكير على الأساس هذا،حين تقوم مؤسساتنا الأمنية بجمع الأسلحة من البيوت بما فيها السكاكين ، حين تمنع خياطة السيوف على البيارق ،وتدوين آيات الحرب ،وتمنع هوسات تمجيد القتلة واللصوص والمنحرفين أمام المضايف ،حين يكف أبناء العشائر عن تشييع موتاهم بالرصاص ،حين نعّلم أبناءنا أن الشرف لا يكمن بغطاء رأس المرأة ،أو تحت بنطلونها الجينز ،إنما بسلوكها داخل البيت والمدرسة والشارع ،حين يصبح اصطحاب المرأة للسينما طقسا اجتماعيا ومعنى لرقي الحياة ، حين نسمح بزراعة الورد بين قبورنا ،حين نفهم شعبنا بأن المشكلة لا تكمن في كأس الخمر التي نشربها،إنما في سلوك شاربها ....




سيكون بمقدورنا الحديث عن أهمية الشعر في حياتنا،سنرى عن قرب ،ونتلمس بقين العارفين ،جوهر وجودنا من خلاله،عند ذلك سيصبح مشهد موت عصفور على سلك الكهرباء، مشهدا مروعا لنا جميعا.ساعتها ،سنتحدث عن الشعر و(رداءة) الشعر العمودي وفقر الشعر الحديث وأسباب موت السيّاب المبكر ،وقصيدة النثر الجميلة... لأن الحياة ستنبثق فينا كموسيقى داخلية،لتحدثنا ،عبر الشعر،عن أهمية وجودنا فيها .




شاعر عراقي

العـــــودة للصفحة الرئيسة - العدد المزوج 11 و 12


العــــــودة للصفحـــة الام - تكست جريدة شهرية ثقافية مستقلة



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق