الأربعاء، 27 أبريل 2011

تكست: العدد 11 و 12 - التفرد - كتب د.أسعد الاسدي


التفرد

· أسعد الأسدي







التفرد حال في الوجود ، هو الوجود . ليس من شبه بين اثنين يغلب على الخلاف بينهما ، فالشبه ليس سوى البدء واثره يأتي الخلاف والتفرد . العالم الأشيائي واحد في عزلة ، انت من يتعاطاه فردا ، فيستحيل عالمك الذي لك ان تميزه عالما متفردا ، في صورة يدلك اليها نهج في الوعي والمعرفة تختاره ، وأنت تجد دروبك الى الوجود ، متفردا يحف بك الاخرون ، ترقبهم وترقب العالم من حولك في رؤيا ، يكون فيها التلقي للبصيرة العارفة ، اكثر وضوحا ومقروئية وجدوى .

وفي المكان ، تزيح عنك العناء وتقر الى وطأة الكرسي ، حيث جماله ونبله ، وذكاؤه وفطنته ، وعظمته وكبرياؤه ، انه يسعك وحدك . وتلحظ كم هو مهذب وانيق ومثقف هذا المخلوق ، الاكثر ما ليحتفي بالفرد في كل الملكوت ، الى مدى تعجز عنه كثير من الاشياء . يحتفي بوجودك فردا لا يدانيك فيه احد . الكرسي ، اي جبار واية سلطة ، واي عطاء ثر ونبيل اذ يأتيك لوحدك . كم تجلّه وتمجده وتقبل يديه ، تركع عند قدميه ، مذهولا من حدة بسالته اذ لا يتسع لسواك . من من اشياء العالم الاه يجازف وبعناد ان لايتسع لسواك . وكم عظيما ان تجد في الكرسي هذا المصير المذهل ، ان لايحاذيك احد ، وانت محمي بسلطة هذا الملاذ المهيب ، يبعد عنك ماليس منك ، فتشغله جالسا في ثبات وهدوء . يقول ( سيوران ) ( ان نعيش حقا يعني ان نرفض الاخرين ، فالقبول بهم يتطلب التخلي عن الاشياء ، كبح جماح الذات ، التصرف ضد الفطرة ، اضعاف النفس . نحن لانتصور الحرية الا لأنفسنا ولانبسطها على القريبين منا الا بشق النفس . )









( 1 ) .

وترى ان المشاركة علاقة ملتبسة ، مربكة واثمة ، وهي تنفذ الى الوجود والفعل والحلم . كيف يمكن لك ان تنام فردا وانت مكتنف في سعة السرير بأقدام الشريك الدافئة ، وكيف لك ان تشرب الشاي ساخنا وهو تلطف قد لايجيده او يحرص عليه رفيق الظهيرة . شريك تحاصرك عواطفه وكلماته حد قول ما يحلو له من قول ، شراكة تغمرك بواهم الحس حتى لايعود لتفردك منفذ . تنتظم احلامك وهي تستحضر صورته المعشوقة ، يساكنك المكان فتغمره او يغمره ، تلونه او يلونه ، تناله او يناله ، وتبحث في الظلمة قانطا عن ضوء يمكن له ان يدل اليك وحدك . وتتذكر ( يوسا ) وهو يحذر ان ( اليوتوبيات الجماعية المعادية بتطرف للحرية ، ... تحمل معها على الدوام بذور الكارثة . ) ( 2 ) .

تنجلي في عيونك حيرة الأشياء وهي تحاصر بعضها ، اذ تحاذيها وتزاحمها في الأزمنة والأمكنة ، ويلوذ في رأسك السؤال ، كيف تجد الغرفة مكانها في البيت ، موطنها الذي لايزيحها عنه فضاء اخر . كيف يجد فضاء النوم مأواه المتفرد ، فلا يدانيه في سعة العيش فضاء اخر . وكيف يجد شاغلو الدار دروبهم الى أسرّتهم ، قبل ان يصادفهم وهم يتسللون الى عزلتهم ، حراس الوضع الأجتماعي الأبدي ، الحريصون على سكب الساعات الطويلة ، أمام شاشة التلفاز وهي تهذر بحكايات مكرورة .

في البيت ، ترقب الجدران وهي تلتف أمامك لتدور حول الفضاءات ، تسمي الفعل اليومي و تميزه وتحميه . غير انها تهدر بذلك الكثير من التواصل . و قد يؤذن ستار شفاف او حاجز جزئي من خشب مشبك وهو يحاول الاحاطة ، بالمأمول من عبور الأصوات والكلمات والوجوه .

وفي مكان العمل ، حيث تمضي وقتك في قاعات المحاضرات ، يلتزم الطلبة الهدوء . وفي الممر المحاذي للقاعة لصق الجدار ، تسمع حوارا وضوضاء وضحكات . وتتساءل ، عندما نرفع الجدار مابين القاعة والممر، هل يعبر هدوء القاعة الى الممر، ام تدخل ضوضاء الممر الى القاعة ؟ اي سلوك سوف يعم فضاء القاعة والممر حيث لايعود بينهما جدار ؟ كيف يمكن أدامة الحفاظ على تمايز الفضاءين على الرغم من تواصلهما المتعمد ؟ واذ يعبر حاجز شفاف بين القاعة والممر ، كيف يتأتى لكل من الفضاءين ان يبلغ تفرده ؟ وتذهب في خيالك الى ما رغبت ، ترفع الان جدار المرسم الذي يعزله عن ممر الحركة وفضاء الانتظار جواره . في فضاء المرسم ، مجموعة من الطلبة وبضعة اساتذة ، مشغولون جميعا في فعالية تعليمية مهنية ، يتوارث فيها الطلبة خبرة اساتذتهم في الهندسة المعمارية . ممارسة الدرس تقع الان في العلن . الهدوء الذي يختص به المرسم ينفذ بسلطته الى الممر. المتحركون هناك المحاذون للمرسم يذهبون الى الهدوء الان . يرقبون المرسم والطلبة والاساتذة ، وفعل الدرس يستحيل غير ممارسة اكاديمية اعتيادية ، تحفها جدران قاعة ، بل يصبح الدرس بعد زوال الجدران ، بعض ثقافة الحضور في مبنى القسم الدراسي . ومايلبث المكوث في المبنى أن يكون ، بعض العيش في مشغل معماري ، يشترك فيه كل العابرين في فضاءات المبنى ، وهم يصادف حضورهم عرض لمشروع معماري ، او مناقشة له او حوار حوله . ارفع الجدران ، غير اني سوف ابقي على السقوف ، فيكون لكل فضاء في المبنى سقف يميزه ، ويحفظ له تفرده . سقف عال وسقف واطيء ، بلون او شكل مختلف . سقوف متمايزة تمايز الفضاءات والاستعمالات المتعددة ، وهي تتوزع زوايا المبنى . كل الذي في المبنى الان يمكن له ان يصادف الاخر ، من يمكث في قاعة الدرس ، ومن يعمل في مكتبه ، ومن يسير في الممرات . وتشيع في المبنى عادات جديدة تحفظ لكل فضاء عزلته ، عوض غياب الجدران ، وقد كانت تجعل من عزلة الفضاء الواحد ممكنة بسهولة ساذجة ، دون ان تفلح في انضاج سلوك استعمالي ، يحمي الفضاء اذ تغيب ، في تنوع كثافة الحركة وفي تعدد وتباين حالات الصمت والكلام ، وهدوء الفضاءات أو تعالي اصواتها . يمكن الان اضافة احاطات زجاجية شفافة حول الفضاءات ، لتفعيل اشد كفاءة لمقولة العزل الصوتي بينها ، مع اتاحة دائمة لتواصل بصري يعبر مديات المبنى . هي جدران زجاجية تصل بصريا بين فضاءات ذات مناخات صوتية متباينة ، وتلقاك في حال كلام ، يرقبك الاخرون ، تصمت او تضحك ، تشير او تسب ، تتحرك جيئة وذهابا ، وانت في عيون ليس فقط من يشاركك الفضاء ، بل كل من يدلف الى المبنى ، ويستحيل المسموع الى مرئي ، ويهيمن تلقي المرئي على غياب المسموع ، فينجلي الحوار اشارات وايماءات لا كلمات ، وتسود لغة اخرى تستبدل الصوت بالصمت ، والكلمة بالحركة والاشارة ، وتختفي نية الاستماع للاخرين وهم يظهرون في المشهد ، وتنمو نية ترجمة حركاتهم وسكناتهم الى معان ودلالات ، تؤسس لتوظيف لغة جديدة . لا يعود لازما ان تحضر في قاعة الدرس ، كي يصلك مايقال ، بل تبلغ من صورة ماترى الكثير من معنى مايقال . كما ان من يدرك حضوره في المشهد البصري للاخر ، يسعى الى انضاج لغة اشاراته ، كي يقدم تجليا ذا قيمة ، يحمل برسالة مضمونية او تعبيرية ، فهو المسموع من المقربين اليه في الفضاء المعماري ، مرئي لكل سكان المبنى ، لينمو في الفضاء المتواصل خطاب بصري ، ينقل معلومة ويجهز للقراءة فيثقل حمولة الوجوه ، ولايعود التجلي كلمة اخاذة تصل المسامع ، بل اشارة لماحة تسكن مشهدا يطول ويمتد رغبة في تلقي تجليات لا تمل .

يمكن لك ان تكون في المكان وحدك ، او ان يكون المكان لك وحدك ، غير انك يمكن ان تحيل المكان مكانك ، وان تنفذ اليه فينفذ اليك ، وتتمكن منه كما يمكن له ان يتمكن منك ، عندما تصوغ في المكان تفردا يخصك فيكون مكانك . يبنى المكان في العمارة ، في وضع شكلي يصور واقعا ثقافيا ينتمي اليه ، انسان المبنى ، ولو وجدنا في الفرد اختياراته الثقافية المؤسسة لنمط حياته وافعاله في المكان ، فسوف يكون في ذلك منفذ الى تفرده وتفرد الوقائع المكانية في حياته .

( 1 ) سيوران – تاريخ ويوتوبيا – ترجمة : ادم فتحي – دارالجمل - ص 24

( 2 ) ماريو فارغاس يوسا – دفاتردون ريغوبيرتو – ترجمة : صالح علماني – دار المدى – ص 306

· أكاديمي عراقي

العـــــودة للصفحة الرئيسة - العدد المزوج 11 و 12


العــــــودة للصفحـــة الام - تكست جريدة شهرية ثقافية مستقلة


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق