خزعل الماجدي..
الكتابة الفاجعة في فيلم طويل جدا..
*علي حسن الفواز
الموت يقترح كتابة نصه الشعري، يضع سريته وغرابته امام يومياته لكي يصطنع لها عبر ماتتيحه اللغة الكثير من الازاحات والتوغلات والطرق التي لاتشبه طرق الحرير بشيء..
في كتابه الشعري(فيلم طويل جدا) الصادر عن منشورات بابل يضعنا الشاعر خزعل الماجدي امام كتابة الموت شعريا، استعادته كنص وكرؤيا، اذ يبدو الماجدي هنا وكأنه المستلب ازاء ما توهمه به شفرة الموت المحمولة على صورته السينمائية، تلك الصورة التي تستلبه وتخدعه، وتطلقه الى فضاء من التأويلات المراوغة..
فهل تمكن الشاعر خزعل الماجدي من التواشج مع هذه اللعبة الخادعة؟ وهل استعاد توازنه ليكتب قصيدته(البصرية) التي طالما اخذتنا الى استغراقاتها المثيرة، والدافعة الى استرجاعات تمغنط اللغة مع مايحوطها من تفاصيل واسرار وميثولوجيات، وبالطريقة التي يمنح اللغة شراهتها المدهشة لكي تكون هي الخالقة، وهي الاس(التصويري) الذي يركّب العالم عبر استعاراته..
هذا الكتاب الشعري هو محاولة في ملاحقة مايجري في العراق المحارب والمكسور، اذ يتلمس عبر الباصرة السينمائية طرقا لتفسير هذه الصورة الطاغية والمكررة، فهو يقسم كتابه الى جزأين الاول قبل العرض، حيث يستجمع التاريخ المعاصر(تاريخ الصورة العراقية) منذ عام 1917 حينما سقطت بغداد تحت الاحتلال الانكليزي، بكل مايحمله هذا الاحتلال من دلالات واشارات توحي بانهيار شفرة المكان/المقس، وانتهاك سرية الوجود، وبعد العرض حيث لحظته المعاصرة التي هي تسجيل وثائقي للسنوات التي تلت هذا الاحتلال باتجاه سلسلة من الاحتلالات الوجودية والانسانية والعقائدية والتي انتهت بالاحتلال الاميريكي الذي افقده لحظته الباقية، وسره الكينوني المتماهي مع شفرة الابن المفقود..
يصف الماجدي فيلمه الشعري من(داخل الصالة) حيث يرى ابطاله وقد هبطوا الى صالة العرض، يتحدثون عن سيناريو الاحداث وكأنها تخص الجميع، او انها دعوة للجميع لكي يروا اسرار هذا السيناريو الفنطازي.. ماحاوله الشاعر الماجدي هو انه اعاد انتاج مستويات السيناريو كتركيبة فيلمية لتكون ملحمته الشخصية التي تتراكب فيها احداث التاريخ العراقي المحتشد بالغرائب والحروب والهزائم، مع مناخات حسية مسكونة بشعرية السواد التي تحولت الى شعرية بصرية عميقة الاثر في العقيدة الشعبية العراقية وفي التشفير اللغوي الذي تنسجه الامهات المتلفعات بسوادهنّ واحزانهن بنوع الاستلاب الغامر والفادح..
يفتتح الماجدي كتابه باستغراق شعري طويل(لا ينفع هذا العصر سوى البكاء/ البكاء على ما جرى وما سيجري/ لا ينفع هذا العصر سوى المراثي) وكأنه يضع هذا الاستغراق امام لحظته الشخصية الفاجعة، تلك التي يفقد فيها الانسان كل شيء، ولم يبق امامه سوى ان يمارس طقوس رثائه الكاملة، رثاء الوطن والناس والمكان والعائلة والاولاد الهارربين اضطرارا واغتيالا الى المجهول، والتي تجد في هذا التساؤل نوعا من التقابل الفجائعي بين الذات المكسورة والوطن الرمزي الضائع في متاهات الحرب وفي التباسات اللغة..
(لماذا لا تصافحني يا وطني/ يدك مجروحة أم يدي؟/ أعطيتك حياتي كلها... وكتبت لك كتباً وقصائد/ فماذا قدمت لي سوى الخراب والدمار والموت والمنفى؟)
احسب ان هذا التساؤل المباشر هو نزوع الى تجريد لغته الشعرية من مقدسها الاستعاري، باتجاه ان تكون القصيدة هي نص يخص الشاعر، يخص رؤيته التي ماعادت تقف امام الركام الاغترابي للاستعارات، وامام خديعة الصورة الايهامية التي كثيرا ما كان الماجدي ماهرا في استدعاء اشتغالاتها في نصوصه السابقة. تلك التي تحولت الى تاريخ شخصي للشاعر، والى كتابات تحتمل الكثير من الرمزية والتأويل عبر استغواراته الباحثة في جذور الاساطير والمثيولوجيات والرقى والطقوس العرفانية والاسحار والاديان القديمة.
يقول الماجدي(لم نرَ الموت في صالة سينما، لم نره على شاشة بيضاء/ لم يكن فيلماً ملوناً بل عانقناه طويلاً/ وأحبّنا، لم يجد شعباً وفياً له سوانا) وهذا التوصيف هو الاكثر واقعية في اصطناع نص بصري/سينمائي، من خلال الحدث الذي تحول الى عنوان كبير او(اسكيج) كماهو في اللغة البصرية، اذ هو يختزل دلالة الصورة والفكرة، ويوحي الى ماتكشفه من تجليات للواقع المنتهك، وماتثيره من اغترابات هي اغترابات الشاعر ازاء تاريخه ويومياته، وازاء نصه القديم، نصه التأويل المحمول على رمزيات حافلة بالتناقض والالتباس حينا، مثلما هي حافلة بالبواعث المعرفية الجمالية حينا اخر..
خزعل الماجدي الشاعر الاستثائي في مغامراته الشعرية، يضع العالم في هذا الكتاب/الفيلم الطويل امام سخرية مرة، وربما امام لعبة في الانتظار الطويل الذي يشبه الموت. السخرية تكمن في النص المباشر في نثريته اللاذعة، ولعبة الانتظار في هذا الانثيال الذي يندفع اليه الشاعر وهو يجوس مع اللغة بحثا عن اوهام قديمة من خلال وقائع حاضرة.
وهذا التصادم يضعه امام فزاعات كائنات مثيولوجياته الغائبين، لكنهم الحاضرون الان في(فيلمه الطويل) وهم متلبسون بقتامة الحرب وفزاعات الموت اليومي.
(القتلة المتعطشون للموت يحملون الهراوات/ والسيوف والسكاكين والمسدسات والرشاشات/ ويصرخون في الأضرحة والأسواق والمستشفيات/ يرفضون كل شيء حتى أنفسهم/ هل أبكيك يا عراق)
هذه الصورة/اللقطة المباشرة هي(كلوز) لصورة سينمائية ترسم الواقع الحافل بالغرابة، والمفتوح على سلسلة من التحولات التي تضجّ بما يتداعي في ما بعدية هذه الصورة التي اختصرت الواقع تماما، وربما تحولت الى شفرته الطاغية..
لم يشأ الشاعر الاّ ان يحمّل لغته القديمة الكثير من السرد والتوصيف، فهي رغم تشوه نظام شفراتها الذي ابتكر له الكثير من الاسرار، تظل هي جوهر نصه الرثائي/الصوتي/الطقوسي الذي يتماهى فيه مع الطقوس العراقية الرثائية القديمة، خاصة طقوس النساء الجنوبيات اللائي يندبنّ منذ الازل سر الفقدان، فقدان الابناء والعابرين والامكنة..
هذا الكتاب الشعري هو قصيدة واحدة للشاعر الذي يرى العالم امامه ملتبسا، عالم مغزو بكل شيء، بالغزاة العابرين، والقتلة الذين يرمون موتهم الطقوسي والايديولوجي على رؤوس الطرق والناس، فضلا عن ان هذا النمط من الكتابة الذي يفارق بها الشاعر تاريخه القديم ومرجعياته التي وضعته في صلب التحولات الشعرية الجديدة منذ نهاية السبعينات والى لحظتنا الحاضرة، هو اشبه مايكون ب(شهادة) وجودية على مايراه، وليس مايتخيله! اذ تبدو هذه الرؤيا لاتشبه تماما رؤى كلكامش الالوهي القديم، بقدر ماهي رؤية(انكيدو) الانسوي الذي يضعه الالم والخوف امام لعبة الجسد المكسور والمهزوم وهو يكشف عن ما تجس به تلك الرؤيا من خسرانات فاجعة..
*ناقد عراقي
العـــــودة للصفحة الرئيسة - العدد المزوج 11 و 12
العــــــودة للصفحـــة الام - تكست جريدة شهرية ثقافية مستقلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق