رأي في ترجمة الشعر
* أحمد خالص الشعلان
ان واحدة من الحقائق التي تحولت الى بديهية عامة، في عالم الترجمة، هي تلك التي تتحدث عن الخسارة في الدلالة، التي يتعرض لها النص المكتوب بلغة ما عند نقله الى لغة أخرى. و يظن أن هذه الخسارة تحصل على مستويات النص كافة، سواء أكانت اسلوبية و دلالية، بحيث تمتد الى مستوى الخطاب و التداول أيضا. لكن هذه الخسارة، من ناحية أخرى، تختلف و تتباين بتباين النصوص و طبيعتها و نوعها. ما يجعلها تتراوح بين خسارة طفيفة قد لا يكون لها تاثير كبير على فحوى الرسالة، الى خسارة كبيرة، جعلت عددا معتبرا من منظري الترجمة و علماء اللغة يتحدثون عن "اعادة خلق"،أو "اعادة كتابة" مفترضة للنص المترجم يقوم بها المترجم، لدرجة أن المرء قد لا يجد أحيانا الا قدرا من التطابق في أدنى مستوياته بين النص الأصل و النص الهدف في الترجمة، ناهيك عن أن "اعادة الخلق" المفترضة هذه، ان صحت عمليا، لا بد أنها ستؤدي، شئنا أم أبينا، الى مراجعة لا بد منها للمفاهيم و المصطلحات التي لها علاقة بالترجمة و باللغة على حد سواء.
و بما أن الخسارة التي تحصل للنص، عند ترجمته، تتوقف على طبيعة النص نفسه، فالنصوص العلمية، مثلا و مثلما جرى الاتفاق عليه عند خبراء الترجمة، تعد النصوص الأقل تعرضا للخسارة على العموم، عند ترجمتها، لأنها تتعاطى مع الحقائق العلمية الموضوعية، و بذا يكون تأثير دور العامل الذاتي (اجتهادات المترجم) في أضيق احتمالاته عند صياغة فحوى الرسالة المنقولة. أما النصوص الأدبية الابداعية (رواية، قصة، مسرحية، قصيدة، الخ . . .)، فهي الأكثر تعرضا للخسارة، لأنها تتعاطى مع عواطف و وجدانات و حقائق (ان وجدت) افتراضية، اذ تتعرض في الغالب الى التخلخل الدلالي عند نقلها الى لغة أخرى، بسبب غياب المفردات المقابلة في اللغة الهدف التي تتطابق معانيها تطابقا تاما مطلقا مع معاني مفردات اللغة المصدر. و بذا، لا تتوقف الخسارة عند المعنى فحسب، بل تمتد لتتعدى الى الأسلوب الذي يعد أحد أركان العمل الابداعي، فايقاع الكلمات و جرسها هنا يختلف من لغة الى أخرى، بخاصة حين لا تكون اللغتان، المنقول منها و المنقول اليها، تنتميان الى عائلة لغوية واحدة، ما يتيح لدور العامل الذاتي (المترجم) أن ياخذ مكانه، تأثيرا، في عملية تخيّر المفردات المناسبة التي يتشكل منها النص. و من هنا، دون ريب، تنشأ الفكرة ألجنينية لأطروحة "اعادة خلق النص" في الترجمة التي يكثر الحديث عنها. و من هنا، اذا تحرينا التفصيلات و جهات النظر في هذا الصدد، سنجد أن الشعر هو الخاسر ألأكبر على الاطلاق، عند الترجمة، من بين الانواع الابداعية جميعا. و ذلك، بسبب خضوع الشعر، لا غيره من صنوف الابداع، لقواعد بنائية و اشتراطات أسلوبية و تقنية، تقلل من مجالات تداخله مع صنوف الابداع الأخرى الى أدنى حد ممكن، بحيث تجعل منه الجنس الأعقد اطلاقا من بين أجناس الفن الكتابية. ذلك، ربما لأن الموسيقى تدخل في جملة عناصره التكوينية. و بما أن الموسيقى هي الفن الأكثر تجريدية من بين الفنون جميعا، و كل الفنون تطمح لكي تغدو كالموسيقى، و هل يمكن ترجمة الموسيقى يا ترى!؟ فان الشعر، عند الترجمة، هو ألأعقد و ألأصعب و ألأكثر مغامرة و رومانسية عند المترجم من جانب، و هو ألأشد خسارة موضوعيا من جانب آخر.
و الآن ، ان السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو:
هل بالامكان ترجمة الشعر؟ و كيف؟
قد تأتي الاجابات الافتراضية التالية لينطبق كل منها على حال من ألأحوال:
1- "نعم"، الى حد كبير نسبيا، اذا جاءت الترجمة مبنية على أساس المعنى، و ليس على عنصر آخر غير المعنى. و بذا، ينقلب النص المكتوب باللغة المصدر شعرا الى نص مكتوب نثرا باللغة الهدف، يتوهم معه القارئ، عند القراءة، أنه يقرأ شعرا، في حين ان ما يقرأه، اذا شئنا الحقيقة ليس سوى ثيمة القصيدة الأصل، و قد وصلته نثرا مقطعا بأسلوب قصيدة النثر، لا غير. و ستكون الخسارة ألأكبر في مثل هذه الحالة، لا محالة في فن التشكل ألأصيل للقصيدة، و أقلها في المعنى.
2 - "نعم و لا". و لكن الى حد يصعب تحديده، اذا جاءت الترجمة، و قد توخت أصلا، تحقيق عناصر فنية تسعى لايهام القارئ بأنه يقرأ شعرا منقولا من لغة أخرى الى لغته، و بأن يجتهد فيها المترجم لخلق موسيقى داخلية للنص في اللغة الهدف من خلال براعته في التلاعب، بخاصة اذا كان المترجم بالأساس شاعرا و ناظما، باللغة لخلق قصيدة من نوع ما في اللغة الهدف، و مرة أخرى سيحسبها هنا القارئ شعرا، في حين ان صورها المتحققة في الترجمة قد لا تكون سوى انعكاس باهت للصور الموجودة في مناخات النص الأصلي، أو صور مؤثرة جماليا خلقتها مخيلة المترجم قد لا تكون لها بصور القصيدة ألأصل سوى في أضعف ألايمان. و هنا قد تكون الخسارة في المعنى اكثر مما هي في الفن بحسب ظني، لأن المترجم يكون فيها قد استخدم طاقة شعرية كامنة عنده لا تستطيع التعبير عن نفسها الا بالمرور عبر تجربة شعرية بلغة أخرى غير لغته.
3- "لا"، الى حد بعيد جدا، اذا حاول المترجم أن ينقل نصا شعريا من اللغة المصدر الى شعر منظوم الى اللغة الهدف، على وفق ألأوزان الشعرية للغة الهدف. و هو بذلك، في حقيقة ألأمر، سيكتب قصيدة باللغة الهدف، مستوحاة من قصيدة مكتوبة باللغة المصدر، و لا تربطها بالقصيدة الأصلية الا علاقة واهية هي نقطة الانطلاق من ثيمة القصيدة الأصل. ذلك، لأن أوزان الشعر و بحوره تختلف اختلافا جوهريا و جذريا عند شعراء اللغات كافة، بخاصة اذا كانت اللغة المصدر و اللغة الهدف لا تجمعهما رابطة أسرية لغوية بنيوية. مثلما هو الحال في عملي أنا حين أزعم اني أترجم الشعر. فاللغة التي أنقل منها، و هي الانكليزية، هي عضو في أسرة اللغات الهندوأوروبية، في حين ان اللغة الهدف، العربية، هي عضو في أسرة اللغات السامية، ما يخلق تقاطعا حتميا عند نقل النص على عدد من مستويات بنيوية تقع داخل اللغة (المفردة، العبارة، الجملة، . . .)، و على مستويات أخرى تقع خارج اللغة؛ و هي رهن بالذات المستخدمة للغة تارة، و رهن بثقافة تلك اللغة تارة أخرى. فما بالك أن تحدثنا عن خواص اضافية تخص بنية النوع الشعري على جميع مستويتها. في هذه الحالة ستكون الخسارة، دون ريب، في المعنى و في الفن على حد سواء. ذلك، لأن الحالة النفسية التي ينطلق منها المترجم، بنيويا و سايكولوجيا و ثقافيا، لصياغة نصه الشعري المفترض، ستختلف بالكامل عن تلك التي انطلق منها كاتب النص الشعري في اللغة المصدر.
و بوجود رأي يقول: أن الاجتهادات، في تفسير أي نص ابداعي و طرق تلقيه بلغته ألأصل، يبلغ عددها عدد قرائ النص و متلقيه من المتحدثين بلغة ذاك النص، فما بالك، اذن، بعدد الاجتهادات المضافة في تلقيه من لدن قراء تلك اللغة من غير أبنائها، ومن بينهم المترجمين المغامرين أبدا و الميالين، حالهم حال الشعراء، الى كسر القواعد عند الترجمة، فضلا عن ميلهم، مثل الشعراء ثانية حين يبحثون عن الفن أفضله، فيروحون ليبحثوا مقابلات للمفردات و العبارت، لا في المعاني بل في ظلالها، المتمثل في مسعاهم الى أن يهيأوا للقارئ عناصر المتعة المتوقعة، أما اذا أمعن المترجم في التوغل في ظلال المعاني تلك، فأقرأ على القصيدة ألأصل السلام. و من هنا تأتي أهمية ان يوضع النص الأصلي للقصيدة الى جانب النص المترجم، و هو النهج الذي يتبعه في أغلب الحالات كاتب هذه السطور، توخيا لتحقيق أغراض عديدة منها :
- اتاحة الفرصة لطلبة الترجمة للتعرف على الطريقة المتبعة في ترجمة مظنونة للشعر من أجل المقارنة.
- اتاحة الفرصة لقراء الشعر، الذين لديهم معرفة متواضعة باللغة المصدر، لكي يكون بامكانهم تطوير قدراتهم القرائية باللغة المصدر على نحو ما.
- اتاحة الفرصة لنقاد الترجمة لتكوين آراء و أحكام جديدة عن ترجمة الشعر خاصة، و النصوص الابداعية عامة.
- و لوضع اجتهادات المترجم صاحب المنجز في الميزان من لدن الجمهور المتلقي المذكور في أعلاه
و بذلك قد يجد قارئ ما نسميه جوازا بـ "الشعر المترجم" بعضا مما ينطبق عليه ما ورد في الفقرة (1) في أعلاه، و أعني بذلك، ترجمات مبنية على أساس المعنى. و سيجد في بعض آخر ما ينطبق عليه ما ورد في الفقرة (2) في أعلاه، و أعني بذلك، محاولة ايجاد موسيقى داخلية للترجمة، من نوع ما، بحيث تبدو كأنها قصيدة من نوع معين في اللغة الهدف. و قد لا يجد قارئ الشعر المترجم، من ناحية أخرى، ما يندرج ضمن الشعر المترجم المذكورة في الفقرة (3) في أعلاه، و أعني ترجمة الشعر شعرا، لأن مغامرة من هذا النوع قد تتطلب توفر معرفة بنيوية بالشعر العربي لدى المترجم، و هي معرفة يفتقر اليها الكثير من مترجمي الشعر عندنا، و كاتب هذه السطور أولهم .
و الشئ بالشئ يذكر، فهل تعد ترجمة الشعر مهمة لا بد من أن يكون، من يقوم بها، شاعرا، أو على ألأقل يتمتع بروح شعرية؟ فكاتب هذه السطور، في الواقع، ليس لم يكن يوما شاعرا، لأنه لم يكتب شعرا في حياته، و لا يدري أيضا ان كان يتمتع بروح شعرية من نوع ما، أو لا يمتع! و مع ذلك قرر ذات يوم القيام بمغامرة ترجمة الشعر، استنادا على ما يملكه من موهبة، متواضعة ، جربها في نقل نص من لغة الى أخرى، في حقل علم اللغة و فروعه، مثلا، و حقل الفلسفة، و حقل النقد ألأدبي، مع محاولات متواضعة لنقل بعض القصائد من الانكليزية الى العربية. فبانت له هذه المحاولات، من جانب مهم، من الناحية العملية، نوع المصاعب التي يواجهها المترجم في نقل النص الشعري، بكل ما يحمله من تعقيدات تقنية و جمالية و لغوية و أسلوبية، الى لغة أخرى، لا يجمعها جامع باللغة المنقول منها، الا على مستوى بعض العموميات universals التي تلتقي حولها اللغات عموما. و هو العمل المهم الذي يهئ، من جانب آخر، تكوين منطلقات نظرية و عملية، يستند اليها المترجم لتبني ستراتيجيات مبتكرة دوما (على ألقل لعمله هو مترجما لا لعمل غيره) للتغلب على مثل هذه الصعوبات. و مع ذلك فالمرء، في مغامرة ترجمة الشعر مثلا ، قد يواجه صعوبة شاعر من طراز ي. ي. كامنغز في قصيدته "أي عاش في مدينة يا لها من جميلة" من نحو فريد جدا:
أيّ عاش فـي مـديـنـة يـا لـهـا مـن جـمـيـلـة ( 1940 )
أيّ عاش في مدينة مدينة يا لها من جميلة
" بأجراس عديدة تنقلب عاليا ، هكذا ، ثم تهوي
ربيع صيف و خريف شتاء
غنى ما لم يفعل و رقص على ما فعل .
نساء و رجال ( جمع دميمات و قميئين )
لا يعبأون بأحد البتة
زرعوا عدمهم و حصدوا المثيل
قمر شمس أمطرت النجوم
حزر الأطفال جميعهم سوى حفنة منهم
ما فعلوه صغارا نسوه ما أن كبروا
شتاء خريف و صيف ربيع
ما من أنسان أحبه و زاد في حبه
الحين يعرف باللحظة و الشجرة بالورقة
ضحكت لمرحه و انتحبت لأساه
الطير عند الثلج و الرجفة في السكون
و أيّ أيّ كان عندها كلاّ .
آحادهم تزوجوا أيّا منهم
ضحكوا صرخاتهم و أدوا رقصاتهم
( ينامون يقظتهم يحلمون و بعدها ) تراهم
تفوهوا بمطلقاتهم و ناموا أحلامهم
النجوم تمطر قمر شمس
( قد يكون الثلج وحده قادر على تفسير
لم ينسى الأطفال أن يتذكروا
أجراس تنقلب عاليا ، هكذا ، ثم الى أسفل تطير )
ذات يوم أيّ أحد منهم مات مثلما أظن
( و ما طأطأ أي منهم رأسه ليقبل وجهه )
أناس منشغلون دفنوهم جنبا الى جنب
و القليل يعرف بالقليل و كان يعرف بما كان
الجمع يعرف بالجمع و الحفرة بالحفرة
و بالمزيد ، المزيد يحلمون برقدتهم
لا أحد و ما من أحد أهال عليهم ، بمجيء نيسان ، ترابا
الرغبة تعرف بالروح و الموافقة بشرط
نساء و رجال ( يطنون او يطنطن )
صيف خريف شتاء ربيع
حصدوا ما بذروا و ذهبوا الى مجيئهم
قمر شمس تمطر النجوم .
Anyone lived in pretty how town
( 1940 )
Anyone lived in pretty how town
(with up floating many bells down )
Spring summer autumn winter
He sang his didn’t he danced his did.
Women and men (both little and small )
Cared for anyone not at all
They sowed their isn’t they reaped their same
Sun moon stars rain
Children guessed ( but only a few
And down they forget as up they grew
autumn winter spring summer )
that noone loved him more by more
when by now tree by leaf
she laughed his joy she cried his grief
bird by snow and stir by still
anyone’s any was all to her .
someones married their everyone
laughed their crying and did their dance
( sleep wake hope and then ) they
Said their nevers they slept their dream
Stars rain sun moon
( and only the snow can begin to explain
How the children are apt to remember
With up so floating many bells down )
One day anyone died I guess
( and no one stooped to kiss his face
Busy folk buried them side by side
Little by little and was by was .
All by all and deep by deep
And more by more they dream their sleep
No one and anyone earth by april
Wish by spirit and if by yes
Women and men ( both dong and ding )
Summer autumn winter spring
Reaped their sowing and went their came
Sun moon stars rain
فهذه القصيدة، و بسبب تقنيتها المفرطة في شكليتها، و المتمثل بغياب أدوات التنقيط، و الكسر الفاضح لقواعد اللغة كتابة و قولا، و على المستويات كافة، المفردة أو العبارة أو الجملة، و بما فيها من فنتازيا، قد تذكر المرء، من جانب، برواية الكاتب الفرنسي دي سنت اكزوبري الموسومة "ألأمير الصغير" التي حيرت النقاد من ناحية الخطاب الذي فيها: أهو موجه للصغار أم للكبار؟! و قصيدة كامنغز ينطبق عليها هذا ألأمر، الى حد بعيد. فالمرء معها يحتار فيما اذا كان الشاعر يستخدم هذا التلاعب باللغة لمخاطبة الصغار لشد انتباههم و مجاراتهم في عبثهم الغوي، أم أنه عبث متفلسف في اللغة لمخاطبة الكبار لا الصغار، و تذكرنا أيضا، من جانب آخر بعبث بعض الشعراء العراقيين باللغة في حقب أنحطاط دولة بني العباس (عند شعراء من طراز ابن الهبارية و ابن السكرية و ابو الشمقمق و غيرهم) في شعر من قبيل:
كتب الحصير على الفقير ان الفصيل ابن البعير
و لمثلها طرب الأميـــــر الى طباهـجـة بـقـــور
و هنا، في ترجمة قصيدة من هذا النوع، قد تأخذ هنا الحيرة بتلابيب المرء في تسمية ما اجترحه عقله في الترجمة، ان كان شعرا أو نثرا أو أي شيئ آخر! و هذا هو ما قصدته بجواب "نعم و لا" المذكور في الفقرة (3) في اعلاه. و ينطبق هذا، الى هذا الحد أو ذاك، على قصائد أخرى متفردة، بخاصة تلك القصائد المنظومة من لدن شعراء و شاعرات من الزنوج الأمريكيين، يتمثل بقدرتهم على ابداع نوع من الشعر يتميز بمزاوجة فريدة بين ثقافة الخطاب السائد بين الملونين الأمريكيين عموما (زنوجا و لاتينيين و آسيويين و لكل خصوصياته) و قواعد الشعر الانكليزي التقليدية، بحيث تبرز في مواضيع قصائدهم هموم اجتماعية، من بينها مشاكل العرق و الجنوسة و الهوية و شرعية الوجود. فكيف مثلا يتصرف المترجم مع نوع من أشعار تعكس الصواب المحتمل الذي تفرزه تجربة الاضطراب المرضي النفسي، كما هو في حالة الشاعرتين أميلي ديكنسن و سلفيا بلاث و غيرهما؟ و كيف مثلا يتصرف المترجم مع تلك القصائد التي تتمثل في محاولات لايجاد رابطة بين الشعر و اللوحة الفنية التشكيلية، و تتجلى بمسعى الشاعر لاستكشاف ما غاب عن ذهن الرسام، من فضاء زمني دينامي غير منظور، عبر تمثل للفضاء المكاني السكوني المنظور في اللوحة، الذي ينغمس فيه موضوع اللوحة، بكل ما تحمله جدلية المكان/الزمان من تعقيدات و تصورات يحاول الفنان أن يستجليها للامساك بها، و منها مثلا قصيدة الشاعر أودن عن لوحة الرسام بروغل الموسومة "سقوط ايكاروس"؟
و بالتالي، و لأن الخسارة، في ترجمة الشعر، تطال الشكل و مضمون على حد سواء، فان مترجم الشعر ليس بيده سوى أن يترك للقاريء، المطلع على اللغة المنقول منها، و هو يقرأ الترجمة، موضوع تقدير الخسارة الجمالية التي يمنى بها النص بها، (و هذا هو أحد أسباب الميل عند المترجم الحريص على صنعته ارفاق النص الأصل مع النص المترجم مثلما قلت سابقا)، بخاصة في فن مثل فن الشعر يستحيل فيه الفصل، الا تعسفا، بين مضمون القصيدة و شكلها. أما القاريء الذي ليس له اطلاع كاف على اللغة الانكليزية ، فيترك له أمر تقدير المتعة (المزعومة من لدن المترجم) التي سيحظى بها عند القراءة.
و على الرغم من الحرص الشديد، الذي يبديه المترجم، على الحفاظ على روح القصائد، بخاصة السذاجة الظاهرية التي تتحلى بها أغلب القصائد المترجمة، فلا مفر من الاعتراف بانه حين يقرأ المترجم ما توصلت اليه قريحته في ترجمتها، قبل دفعها الى النشر، لا بد أنه واجدا نفسه أمام قصائد غير تلك القصائد التي قرأها في نصها باللغة المصدر، فيجد أحيانا لنفسه سلوى، و هو يتأمل ما صنعته خيالاته، في قول أحد الشعراء الرمزيين الفرنسيين (و على ألأغلب أنه بودلير، في أنه يميل في الغالب، عند نظمه لأية قصيدة، الى وضع المفردات التي يعرفها في قبعته، ثم يروح يسحب من تلك المفردات لا على التعيين ،في لعبة حظ، و يضع تلك المفردات جنبا الى جنب في تشكيل القصيدة، ليصنع منه ذاك الغموض الساحر المحير الخلاب و الرامز الجميل. و قد يسأل أحد: لم اذن المجازفة و المغامرة في ترجمة الشعر؟ في حينها قد تتملك المترجم الحيرة للتملص من هذا ألأمر فيقول: "انها قصة حدثني بها هاتف و تلاشى في السراب"!
· كاتب ومترجم عراقي
* يقدم المترجم في ترجمة النص الشعري وجهة نظره (تكست)
العـــــودة للصفحة الرئيسة - العدد المزوج 11 و 12
العــــــودة للصفحـــة الام - تكست جريدة شهرية ثقافية مستقلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق