الأربعاء، 27 أبريل 2011

تكست: العدد 11 و 12 - التكنيك السردي في القصة القصيرة جدا كتب علوان السلمان

















التكنيك السردي في القصة القصيرة جدا

علوان السلمان*




القصة القصيرة جدا نتاج ابداعي حديث النشأة فرض وجوده منذ السبعينيات من القرن العشرين ..اذ حركة التجريب السردي لمغايرة المنحى المألوف في الكتابة.. والسعي الى ابتكار آليات حديثة لاشتغالاته..والتي عانقت ما قدمه فتحي العشري بترجمته (انفعالات) ناتالي ساروت عام 1971.. ولا يفوتنا ان نذكر تجربة نوئيل رسام في القص القصير جدا اذ نشر عام 1930 (موت فقير)و(اليتيم).. وعلى اثر ذلك برزت القصة القصيرة جدا على شكل اعداد محدودة من القصص منشورة ضمن مجموعة قصصية كما فعل احمد خلف في مجموعته (نزهة في شوارع مهجورة)1974 ..اذ ضمنها خمس قصص قصيرة جدا..ونشرت بثينة الناصري في مجموعتها(حدوة حصان)1974 قصة اسمتها(قصة قصيرة جدا) ونشر القاص خالد حبيب الراوي خمس قصص قصيرة جدا ضمن مجموعته (القطار الليلي)1975..ثم كانت مجاميع القص القصير جدا ضمنا واستقلالا.. فكان نتاج عبدالرحمن مجيد وابراهيم احمد وحنون مجيد وحسب الله يحي ومحمد سمارة وهيثم بهنام بردى وعبدالكريم حسن مراد وعبدالستار ابراهيم وعلوان السلمان وحمدي مخلف الحديثي وكاظم الميزري وحميد عمران الشريفي وزيد الشهيد وفرات صالح وباسم القطراني وناصر قوطي ورمزي حسن..وآخرين.. وبذا قدم القصاصين تقانات فنية سردية تجاوزت التفصيلات واعتمدت التكثيف والاختزال كي تجعل من المتلقي مشاركا لتحقيق الكشف عن هدف النص ومضمونه..فكانت المنفذ المعبر عن حركة الحياة التي تتطلب السرعة والايجاز..اذ فيها لايستغرق القاص الحلم ولا تنعزل ذاته عن العالم الخارجي.. كونه يطرح قصصه باعتبارها جسدا لغويا.. باعتماد التحكم الدقيق والدقة في تكنيك السرد في الشكل والبناء .. اذ ان مهمة الفن: ( التجديد والتجدد والاستمرار..) كما تقول ناتالي ساروت..



فالقصة القصيرة جدا دلالة نوعية وكمية مرتبطة بالسرعة الداخلية للنص من خلال نسق لغوي فني مقدم بعناية وتنظيم يعتمد السنتمتر الواحد والمليم..بتكثيف العبارة وانتقاء اللفظ الرامز والتي تغني النص اختزالا وتثريه دلالة..وتمنحه بعدا تأمليا يحرك الخزانة الفكرية صوب البحث..كونها جنس ادبي امتلك مؤهلاته البنائية والجمالية والفنية من خلال تعبيره عن اللحظة الحياتية ومسايرته حركية الواقع وتغيراته التي يعيشها الانسان ويغص بها الوجود..باستبطانه من الداخل عبر لغة ذات ايحاء يعتمد تيار الوعي وانزياح المعنى وتأويله..انها (فن الايجاز والتركيز الدال) كما يسميها فرانك اكونور في كتابه (الصوت المتفرد).. انها فن ابداعي ظهر مع عوالم العولمة وسرعة ايقاع العصر..وقد اطلق عليها اضافة الى القصة القصيرة جدا (الومضة القصصية ـ الومضة الموحية ـ اللحظة الغير قابلة للتأجيل ـ القصة الشاعرية ـ القصة المشهدية..) كونها تعتمد دقة اللغة المجازية language figure باتقان فلسفة المعنى وعمقه ..مع اقتصاد في مفرداته الدالة بدورها الوظيفي function nel ليجعل متلقيه يغوص داخل اللغة قارئا متفحصا بتأمل..محللا باتقان فقرات القص للوقوف على ما خلف الالفاظ من رمزية وشحنة ملتهبة نتيجة العبارة المكثفة بابتعادها عن الاستطراد والاسهاب في الوصف.. اضافة الى مضمون يقبل التأويل بتعدد قراءاته..كونها جنس يمتاز بقصر العبارة وتكثيفها مع ايحاء ونزعة سردية موجزة مع قصدية رامزة باعتماد الانزياحية.. والضربة المفاجأة التي تنطلق وامضة من نهاياتها وهي تبعث الدهشة التي هي مناط السرد وهدفه والتي تضفي جمالية دلالية على النص لما تكتنزه من معنى.. كونها تتسم بطابعها الوظيفي داخل النص ..اضافة الى انها تحدث توترا وانفعالا وتفتح الآفاق صوب عوالم الطموح..باعتمادها الرؤية من الخلف..اذ الراوي العليم فيها هو الذي يتحكم بالسارد المفترض بذكاء وبصيرة ولا ينساق خلفه دون رقابة..



انها تطوير لفن الخبر التراثي باعتماد عناصر القص(حدث ـ شخصية ـ زمكانية ـ حبكة ـ عقدة درامية ـ نهاية مفاجأة(ضربة)..) مع امتلاكها قدرة التكثيف الدلالي الذي يصور عالما تتسع مدياته..صوب التأويل..والقاص يصل الى مبتغاه السردي بتحميل النص عناصره السردية وانتقاء المفردات والعبارات الموجزة وسبكها بفنية تقتضي الرمزية المحركة للخزانة الفكرية ..ومن ثم تحقيق المتعة والمنفعة في نفس المتلقي بتناول الوجود الانساني واشكالاته بمسحة شعرية تنطلق من موسيقى الحركة الاليفة التي تدعو المتلقي لتحقيق ذاته .. بتجاوزه حدود الزمكانية والوصف ..مع رمزية شفيفة تتوالد من خلال التكثيف والايجاز وعبر اهتمام القاص بالزمانية لابراز متغيرات المكان.. واقتناص اللحظة بطريقة اسلوبية تثير الاندهاش وشاعرية تعتمد الاختزال الذي يسبح في عوالم التخييل والتأويل..اضافة الى اعتماد المنولوج الداخلي بتصوير الذات في صراعها مع كينونتها الداخلية..كما في قصة ارسكين كالدويل الامريكي..



( بلغت حرارة الشمس درجة جعلت طائرا يهبط ليتفيأ في ظلي)..ولارنست همنغواي قصة قصيرة جدا بمفردات خمس..



( للبيع .. حذاء اطفال .. غير مستهلك)



بهذه المفردات الخمس يكتب همنغواي قصته التي تمتاز بقصر حجمها ونزعتها السردية التي تحدد معاييرها الكمية والدلالية بحكم التركيز والاقتصاد في المفردات لغرض بناء المقاطع الشاعرة واجتناب الاستطراد والوصف..اذ الحدث والشخصية والفضاء والبنية الزمنية موظفة بشكل موجز ومكثف مع اعتماد المفردة الموحية الرامزة.. وبذا تشكل لقطة مشهدية لاختصار الزمن.. فيها يعتمد القاص على الالفاظ المركزة..الموحية بمعان عدة مع تكثيف العبارة وضربة رؤيوية تنهي السرد .. محددة بمنظور جمالي يكشف عن المسكوت عنه مع ايقاع حاد للرؤيا وقدرة على الاقتصاد اللغوي .. وهذا يتطلب من المبدع البطء والتأمل والتفكير المتوقد من اجل بناء العبارة.. مع وعي لعناصر القص ومقوماته وتدقيق ما يكتبه اذ ان (المؤلف يجب ان يكون قارئا متيقظا الى اقصى حد..) كما يقول باشلار.. اذ عليه ان يتقن لغة المجاز language figure بتنبهه للفظ وفلسفة معناه وعمق دلالته.. كون القص القصير جدا يعتمد الدقة في المفردة الدالة التي تحقق دورها الوظيفي وتركيزها في المعنى والعبارة والتعبير الموجز الحافل بالمضمون والرمز الذي يقبل التأويل..انه فن قائم على الالتزام بالقيم الجمالية والوعي بالوحدة الموضوعية التي هي (وحدة مستقلة ومتكاملة) كما يؤكد ذلك رولان بارت في (درجة الصفر المئوي) والتكثيف والايجاز والايحاء والمفارقة.. كونها ومضة تقف على نافذة ادراك المتلقي كي يعلن من خلال استبطانها فكرة اعلنت ولادتها فصارت خزينا في الذاكرة..باعتمادها الحدث المركزي واللحظة السردية مع تماسك وثراء بنائها الفني ودلالاتها المعتمدة على اللغة الشاعرة المكتنزة خيالا وعاطفة..المترعة بالجمال..القادرة على التعبير والايحاء.. اذ فيها يطرح القاص بلاغه السردي الموجز باعتماد اللمحة الخاطفة التي تمثل خلاصة لفكرة ما.. بلغة مكثفة مبتعدة عن الاستعارات النمطية باختزال الزمن وتكثيف الاحداث مع تكنيك حداثوي معمق الدلالة..


* ناقد عراقي

العـــــودة للصفحة الرئيسة - العدد المزوج 11 و 12


العــــــودة للصفحـــة الام - تكست جريدة شهرية ثقافية مستقلة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق