الأربعاء، 27 أبريل 2011

تكست: العدد 11 و 12 - اجمل حكايات الزن يتبعها فن الهايكو كتب باسم الشريف


اجمل حكايات الزن يتبعها فن الهايكو

*باسم الشريف








هو واحد من اصدارات مهمة اتحفنا بها المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب في دولة الكويت ،عبر سلسلته الابداعية المميزة .انه كتاب هنري برونل الموسوم (اجمل حكايات الزن وفن الهايكو ) الاصدار حمل الرقم ( 353 ) قام بترجمته محمد الدنيا وراجعه د.محمود رزوقي والكتاب الذي نحن بصدد تسليط الضوء عليه يبدا بسؤال واضح وصريح يطرح نفسه في مستهل التمهيد الذي وضعه المؤلف لكتابه هذا

ما هو الزن ؟

لهذا السؤال الف اجابة ولا اجابة عنه .ثم يواصل الزن في الواقع ( مذهب اللاشيء ) هنا تتسع دائرة السؤال وتأخذ منحى اخر .

وماذا تقول حول اللاشيء ؟

ربما امكنني التهرب من الاجابة ـ يقول الكاتب ـ بان اتحدث في اصول الزن والمظاهر التي اتخذها عبر القرون في الهندوالصين واليابان ـ لابد انكم سمعتموهم يتحدثون عن حدائق الزن وفن الزن ، وشعر ، ومسرح وتصوير الزن .

ـ ماهو الزن ؟يصبح التساؤل اكثر حدة ووضوحا .

ـالزن هو سلوك ذهني وطريقة مختلفة لادراك الواقع انه ان ترى الشيء عاريا مجردا دون معرفة ذهنية قبلية وبلا تشويش انفعالي : زهرة ،حجرا ، مشدا ، طيرا ، "ارفع اصبعي " اجلس صامتا .. وهنا يقوم الزن ايضا .

كتب المعلم د . ت . ( سوزوكي ) يتجلى اللامتناهي لمن يجيد " الرؤية " دون ان تحجبها رغباته ، وذهنه ،ومخاوفه ، و" اناه " في احداث الحياة اليومية الاكثر تواضعا كل شيء بالنسبة الى الزن هو رسالة مطلق ، هو المطلق قبلا . يواصل الكاتب في معرض تعريفه للزن قائلا .

ان هذا التاكيد للزن غير كاف حتى لو ايقظ فينا شدوا غير معهود غير ان المترجم وفي معرض تقديمه للكاتب يعرض لنا مراحل البوذية تحت عنوان " بوذية الزن اليابانية " . بدءا من اليابان التي عبرت اليها البوذية في منتصف القرن السادس الميلادي والتي كانت قد تكيفت في الصين قبل ذلك ويعتبر المترجم هذه البوذية هي في جوهرها مذاهب المركبة الكبرى ( grande vehieule ) مهايانا ، التي تعود في اصولها الى البوذية الهندية ويفيد المترجم ان (الشنتوية Shinto ) هي الديانة الاصلية بالنسبة لليابانيين . وتقتصر طبيعتها على مزيج من تآليه ارواح الطبيعة الخالقة وتبجيل الاجداد وماضيهم وعبادة البطولات ويفيد ايضا ان (الشنتو )كلمة ليست يابانية بل صيغت في القرن السادس مع دخول البوذية للتعبير عن التراث الديني الاقدم وجودا في البلاد ، أي عن طريق ( الكامي ) kami ومن سماته الابرز "الحدسية " أي الاحساس الوجداني العميق بالقوة الروحية المسيطرة على الاشياء ويدرك المؤمن الياباني الكامي على نحو حدسي في اعماق وجدانه ، ويتصل به اتصالا مباشرا من دون ان تكون لديه فكرة عن الكامي من حيث التصور او اللاهوت وفي معرض شرحه يعتبر المترجم ان عقائد وممارسات ( الزن ) zen اختصار zenna من السنسكريتية dhyana ـ دهايانا أي "التامل "

وهي طائفة بوذية تمزج بين الشنتوية والتشانية التي نقلها الراهب ايساي او (ابوساي ) من الصين نحو 1192 . ويقول ان بوذية الزن هي مذهب التأمل في تجربة الاستنارة ، بودي bodhi التي كانت (البوذا ) (حكيم ساكياس ) مثلما يسمى ايضا نسبة الى قومه ،وتعتبر تأملية الزن هي بمثابة ايقاضا لبوذا الموجود في النفس من اجل تحقيق الذات عبر الحياة اليومية والعمل وضبط النفس والولوج الى جوهر الاشياء بالحدس لا بالعقل ، ومن ثمة معرفة الحقيقة الازلية ـــ ويمضي المترجم قدما في معرض تعريفه بالكاتب ،حيث يقول كان رائد الزن هو (داينيشي نونين ) ـ dainichi Nonin ـ من اتباع مدرسة التنداي (فرقة بوذية يابانية ادخلها سايكو 767 ـــ 822 ) الى اليابان ـــ وقد حاول (داينيشي نونين ) دون نجاح ايجاد مدرسة بوديدراما ( ( Bodhidarma لكن تيار الزن الحقيقي في اليابان يعود الى اعمال "ايساس " 1141ـــ 1215 اما المدرسة الثانية في مدرسة (زن كاماكور ) فهي مدرسة "سوتو ـشو" Soto Shu " التي اسسها دوغن (1200ــــ1253) Dogen الذي ركز على تعاليم التنداي وكان قد درس الزن مع ايساي ــقبل توجهه الى الصين ولقد ادت مدرستا الزن هاتان دورا بارزا في اليابان وقد تجاوزتا عتبات البوذية حيث كان من بين اتباعها ، ادباء وخطاطون وشعراء وفنانون اوجدوا اساليب اساسية في فن التصوير ،استوحوا موضوعاته من عقيدتهم لكنهم تجاوزوها بعد ذلك الى الصور الدنيوية وكان النبلاء ينتسبون اليها بحماس اما السوتو فقد تبؤات مكانتها بين الساموراي لبساطتها واعتدال صرامة ممارستها ويعتبر مذهب تشان (Chan) الزن بالتسمية اليابانية ويعني التامل العميق للوصول الى المعرفة وبلوغ الاستنارة احد ثمار بوذية الصين التي تعتبر ان مصدر الخلاص هو الاستنارة الداخلية التي تأتي في لمحة خاطفة فجأة مثل ما حدث لبوذا وان الحقيقة الوحيدة هي طبيعة بوذا وهوما يمكن ان نراه بنظرة متفحصة في داخل انفسنا ويمكن تلمس هذه الاستنارة حسب اصحاب هذا المذهب في ممارسة الاعمال البسيطة كزراعة الارض والتجارة وتأدية الخدمات للأخرين لذلك أننا نجد حرص الكاتب واضحاً في أضاءته للزن من كافة جوانبه عبر احدى وعشرين حكاية اختارها بعناية من بين مئات اخرى هندية وصينية ويابانية . فهي حكايات آتية من اعماق العصور يزدهر بها الذهن وتصطدم بها حساسيتنا الحديثة ،تقض مضجع الرتابة وتهشم آليات وعينا المبعثر . وتعيد لنا نقاءه ، تعيد براءتنا لنضحي من خلالها متماهين مع الكون والصفاء ، ينكشف لنا من خلالها المطلق بين ثنايا المحدود وليس هناك محال امام تلك الحكايات . المسرة ، واليقين ، التوتر ، والصلابة ، التفاؤل ،والوضوح . اعجاز في حركة الانسان بكل ذلك يتجلى السر ،هناك افق من اللامأ لوف . دائما الحقائق تنبلج عبر الحدس لتولد النور حكايات من اقبية الماضي تهزأ من ثوابتنا المبهمة من آرائنا المتحجرة ومن انانيتنا التائهة . وتخندق ذواتنا فهي الصدمة التي تحرر انواتنا من ضغائنها وتطلقها من قرارة ترسبها فهي اذن حكايات تحملنا على اليقين وتبث بنا ارفع تعاليم الرسالات الروحية من اجل أن نكشف ما ننشده منها . انها حكايات رائعة يمكن للكبار و الصغار على حد سواء وحسب حدس كل واحد منهم ومستوى وعيه ان يتعاطى معها فحكايات الزن هذه تفتح لنا ابواب عالم خلاب ،هي قبل كل شيء مدرسة للحرية . اما في القسم الثاني من الكتاب فهو يقدم لنا قصيدة (الهايكو) ( haikus ) والتي هي شعر الزن . حيث تبنى على ثلاثة اسطر تتشكل في مجموعتها من سبعة عشر مقطعا لفظيا تأخذ مادتها من الطبيعة محولة انطباعاتها عنها مع كل ما تتضمنه من طقوس وعادات وكائنات حية. شرط ان تكون المفردات يابانية بالاصل حيث يعمل الشاعر على تحميل صورته الشعرية المثيرة والظاهرة للعيان معنى او معاني اخرى خفية قد يخفى كشفها علىالقارىء غير الملم . فهي لاتكشف عن عذوبتها الا للاذهان الخفية والقلوب المتيقظة ، لا مجال فيها للتوقدات والتصادمات الكبيرة للصور ولا للصراخ والموت والدم ،الهايكو بساطة ورشاقة وتعرية للجوهر الهايكو على طاولة خشبية هي زهرة من حقل انها الزمن المرصود للصمت ، ظرافة وسر ، طير يحط ، لحظة هاربة ،غصن ازلي رقيق .قصيدة الهايكو هي فرصة ممنوحة لنتكهن بكل شيء، لنحب كل شيء في ومضة ثلاثة ابيات من الشعر .

* قاص عراقي

العـــــودة للصفحة الرئيسة - العدد المزوج 11 و 12


العــــــودة للصفحـــة الام - تكست جريدة شهرية ثقافية مستقلة

تكست: العدد 11 و 12 - خزعل الماجدي: الكتابة الفاجعة في فيلم طويل جدا كتب علي حسن الفواز

خزعل الماجدي..

الكتابة الفاجعة في فيلم طويل جدا..

*علي حسن الفواز








الموت يقترح كتابة نصه الشعري، يضع سريته وغرابته امام يومياته لكي يصطنع لها عبر ماتتيحه اللغة الكثير من الازاحات والتوغلات والطرق التي لاتشبه طرق الحرير بشيء..

في كتابه الشعري(فيلم طويل جدا) الصادر عن منشورات بابل يضعنا الشاعر خزعل الماجدي امام كتابة الموت شعريا، استعادته كنص وكرؤيا، اذ يبدو الماجدي هنا وكأنه المستلب ازاء ما توهمه به شفرة الموت المحمولة على صورته السينمائية، تلك الصورة التي تستلبه وتخدعه، وتطلقه الى فضاء من التأويلات المراوغة..


فهل تمكن الشاعر خزعل الماجدي من التواشج مع هذه اللعبة الخادعة؟ وهل استعاد توازنه ليكتب قصيدته(البصرية) التي طالما اخذتنا الى استغراقاتها المثيرة، والدافعة الى استرجاعات تمغنط اللغة مع مايحوطها من تفاصيل واسرار وميثولوجيات، وبالطريقة التي يمنح اللغة شراهتها المدهشة لكي تكون هي الخالقة، وهي الاس(التصويري) الذي يركّب العالم عبر استعاراته..













هذا الكتاب الشعري هو محاولة في ملاحقة مايجري في العراق المحارب والمكسور، اذ يتلمس عبر الباصرة السينمائية طرقا لتفسير هذه الصورة الطاغية والمكررة، فهو يقسم كتابه الى جزأين الاول قبل العرض، حيث يستجمع التاريخ المعاصر(تاريخ الصورة العراقية) منذ عام 1917 حينما سقطت بغداد تحت الاحتلال الانكليزي، بكل مايحمله هذا الاحتلال من دلالات واشارات توحي بانهيار شفرة المكان/المقس، وانتهاك سرية الوجود، وبعد العرض حيث لحظته المعاصرة التي هي تسجيل وثائقي للسنوات التي تلت هذا الاحتلال باتجاه سلسلة من الاحتلالات الوجودية والانسانية والعقائدية والتي انتهت بالاحتلال الاميريكي الذي افقده لحظته الباقية، وسره الكينوني المتماهي مع شفرة الابن المفقود..

يصف الماجدي فيلمه الشعري من(داخل الصالة) حيث يرى ابطاله وقد هبطوا الى صالة العرض، يتحدثون عن سيناريو الاحداث وكأنها تخص الجميع، او انها دعوة للجميع لكي يروا اسرار هذا السيناريو الفنطازي.. ماحاوله الشاعر الماجدي هو انه اعاد انتاج مستويات السيناريو كتركيبة فيلمية لتكون ملحمته الشخصية التي تتراكب فيها احداث التاريخ العراقي المحتشد بالغرائب والحروب والهزائم، مع مناخات حسية مسكونة بشعرية السواد التي تحولت الى شعرية بصرية عميقة الاثر في العقيدة الشعبية العراقية وفي التشفير اللغوي الذي تنسجه الامهات المتلفعات بسوادهنّ واحزانهن بنوع الاستلاب الغامر والفادح..

يفتتح الماجدي كتابه باستغراق شعري طويل(لا ينفع هذا العصر سوى البكاء/ البكاء على ما جرى وما سيجري/ لا ينفع هذا العصر سوى المراثي) وكأنه يضع هذا الاستغراق امام لحظته الشخصية الفاجعة، تلك التي يفقد فيها الانسان كل شيء، ولم يبق امامه سوى ان يمارس طقوس رثائه الكاملة، رثاء الوطن والناس والمكان والعائلة والاولاد الهارربين اضطرارا واغتيالا الى المجهول، والتي تجد في هذا التساؤل نوعا من التقابل الفجائعي بين الذات المكسورة والوطن الرمزي الضائع في متاهات الحرب وفي التباسات اللغة..

(لماذا لا تصافحني يا وطني/ يدك مجروحة أم يدي؟/ أعطيتك حياتي كلها... وكتبت لك كتباً وقصائد/ فماذا قدمت لي سوى الخراب والدمار والموت والمنفى؟)

احسب ان هذا التساؤل المباشر هو نزوع الى تجريد لغته الشعرية من مقدسها الاستعاري، باتجاه ان تكون القصيدة هي نص يخص الشاعر، يخص رؤيته التي ماعادت تقف امام الركام الاغترابي للاستعارات، وامام خديعة الصورة الايهامية التي كثيرا ما كان الماجدي ماهرا في استدعاء اشتغالاتها في نصوصه السابقة. تلك التي تحولت الى تاريخ شخصي للشاعر، والى كتابات تحتمل الكثير من الرمزية والتأويل عبر استغواراته الباحثة في جذور الاساطير والمثيولوجيات والرقى والطقوس العرفانية والاسحار والاديان القديمة.

يقول الماجدي(لم نرَ الموت في صالة سينما، لم نره على شاشة بيضاء/ لم يكن فيلماً ملوناً بل عانقناه طويلاً/ وأحبّنا، لم يجد شعباً وفياً له سوانا) وهذا التوصيف هو الاكثر واقعية في اصطناع نص بصري/سينمائي، من خلال الحدث الذي تحول الى عنوان كبير او(اسكيج) كماهو في اللغة البصرية، اذ هو يختزل دلالة الصورة والفكرة، ويوحي الى ماتكشفه من تجليات للواقع المنتهك، وماتثيره من اغترابات هي اغترابات الشاعر ازاء تاريخه ويومياته، وازاء نصه القديم، نصه التأويل المحمول على رمزيات حافلة بالتناقض والالتباس حينا، مثلما هي حافلة بالبواعث المعرفية الجمالية حينا اخر..

خزعل الماجدي الشاعر الاستثائي في مغامراته الشعرية، يضع العالم في هذا الكتاب/الفيلم الطويل امام سخرية مرة، وربما امام لعبة في الانتظار الطويل الذي يشبه الموت. السخرية تكمن في النص المباشر في نثريته اللاذعة، ولعبة الانتظار في هذا الانثيال الذي يندفع اليه الشاعر وهو يجوس مع اللغة بحثا عن اوهام قديمة من خلال وقائع حاضرة.

وهذا التصادم يضعه امام فزاعات كائنات مثيولوجياته الغائبين، لكنهم الحاضرون الان في(فيلمه الطويل) وهم متلبسون بقتامة الحرب وفزاعات الموت اليومي.

(القتلة المتعطشون للموت يحملون الهراوات/ والسيوف والسكاكين والمسدسات والرشاشات/ ويصرخون في الأضرحة والأسواق والمستشفيات/ يرفضون كل شيء حتى أنفسهم/ هل أبكيك يا عراق)

هذه الصورة/اللقطة المباشرة هي(كلوز) لصورة سينمائية ترسم الواقع الحافل بالغرابة، والمفتوح على سلسلة من التحولات التي تضجّ بما يتداعي في ما بعدية هذه الصورة التي اختصرت الواقع تماما، وربما تحولت الى شفرته الطاغية..

لم يشأ الشاعر الاّ ان يحمّل لغته القديمة الكثير من السرد والتوصيف، فهي رغم تشوه نظام شفراتها الذي ابتكر له الكثير من الاسرار، تظل هي جوهر نصه الرثائي/الصوتي/الطقوسي الذي يتماهى فيه مع الطقوس العراقية الرثائية القديمة، خاصة طقوس النساء الجنوبيات اللائي يندبنّ منذ الازل سر الفقدان، فقدان الابناء والعابرين والامكنة..

هذا الكتاب الشعري هو قصيدة واحدة للشاعر الذي يرى العالم امامه ملتبسا، عالم مغزو بكل شيء، بالغزاة العابرين، والقتلة الذين يرمون موتهم الطقوسي والايديولوجي على رؤوس الطرق والناس، فضلا عن ان هذا النمط من الكتابة الذي يفارق بها الشاعر تاريخه القديم ومرجعياته التي وضعته في صلب التحولات الشعرية الجديدة منذ نهاية السبعينات والى لحظتنا الحاضرة، هو اشبه مايكون ب(شهادة) وجودية على مايراه، وليس مايتخيله! اذ تبدو هذه الرؤيا لاتشبه تماما رؤى كلكامش الالوهي القديم، بقدر ماهي رؤية(انكيدو) الانسوي الذي يضعه الالم والخوف امام لعبة الجسد المكسور والمهزوم وهو يكشف عن ما تجس به تلك الرؤيا من خسرانات فاجعة..

*ناقد عراقي

العـــــودة للصفحة الرئيسة - العدد المزوج 11 و 12


العــــــودة للصفحـــة الام - تكست جريدة شهرية ثقافية مستقلة

تكست: العدد 11 و 12 - التكنيك السردي في القصة القصيرة جدا كتب علوان السلمان

















التكنيك السردي في القصة القصيرة جدا

علوان السلمان*




القصة القصيرة جدا نتاج ابداعي حديث النشأة فرض وجوده منذ السبعينيات من القرن العشرين ..اذ حركة التجريب السردي لمغايرة المنحى المألوف في الكتابة.. والسعي الى ابتكار آليات حديثة لاشتغالاته..والتي عانقت ما قدمه فتحي العشري بترجمته (انفعالات) ناتالي ساروت عام 1971.. ولا يفوتنا ان نذكر تجربة نوئيل رسام في القص القصير جدا اذ نشر عام 1930 (موت فقير)و(اليتيم).. وعلى اثر ذلك برزت القصة القصيرة جدا على شكل اعداد محدودة من القصص منشورة ضمن مجموعة قصصية كما فعل احمد خلف في مجموعته (نزهة في شوارع مهجورة)1974 ..اذ ضمنها خمس قصص قصيرة جدا..ونشرت بثينة الناصري في مجموعتها(حدوة حصان)1974 قصة اسمتها(قصة قصيرة جدا) ونشر القاص خالد حبيب الراوي خمس قصص قصيرة جدا ضمن مجموعته (القطار الليلي)1975..ثم كانت مجاميع القص القصير جدا ضمنا واستقلالا.. فكان نتاج عبدالرحمن مجيد وابراهيم احمد وحنون مجيد وحسب الله يحي ومحمد سمارة وهيثم بهنام بردى وعبدالكريم حسن مراد وعبدالستار ابراهيم وعلوان السلمان وحمدي مخلف الحديثي وكاظم الميزري وحميد عمران الشريفي وزيد الشهيد وفرات صالح وباسم القطراني وناصر قوطي ورمزي حسن..وآخرين.. وبذا قدم القصاصين تقانات فنية سردية تجاوزت التفصيلات واعتمدت التكثيف والاختزال كي تجعل من المتلقي مشاركا لتحقيق الكشف عن هدف النص ومضمونه..فكانت المنفذ المعبر عن حركة الحياة التي تتطلب السرعة والايجاز..اذ فيها لايستغرق القاص الحلم ولا تنعزل ذاته عن العالم الخارجي.. كونه يطرح قصصه باعتبارها جسدا لغويا.. باعتماد التحكم الدقيق والدقة في تكنيك السرد في الشكل والبناء .. اذ ان مهمة الفن: ( التجديد والتجدد والاستمرار..) كما تقول ناتالي ساروت..



فالقصة القصيرة جدا دلالة نوعية وكمية مرتبطة بالسرعة الداخلية للنص من خلال نسق لغوي فني مقدم بعناية وتنظيم يعتمد السنتمتر الواحد والمليم..بتكثيف العبارة وانتقاء اللفظ الرامز والتي تغني النص اختزالا وتثريه دلالة..وتمنحه بعدا تأمليا يحرك الخزانة الفكرية صوب البحث..كونها جنس ادبي امتلك مؤهلاته البنائية والجمالية والفنية من خلال تعبيره عن اللحظة الحياتية ومسايرته حركية الواقع وتغيراته التي يعيشها الانسان ويغص بها الوجود..باستبطانه من الداخل عبر لغة ذات ايحاء يعتمد تيار الوعي وانزياح المعنى وتأويله..انها (فن الايجاز والتركيز الدال) كما يسميها فرانك اكونور في كتابه (الصوت المتفرد).. انها فن ابداعي ظهر مع عوالم العولمة وسرعة ايقاع العصر..وقد اطلق عليها اضافة الى القصة القصيرة جدا (الومضة القصصية ـ الومضة الموحية ـ اللحظة الغير قابلة للتأجيل ـ القصة الشاعرية ـ القصة المشهدية..) كونها تعتمد دقة اللغة المجازية language figure باتقان فلسفة المعنى وعمقه ..مع اقتصاد في مفرداته الدالة بدورها الوظيفي function nel ليجعل متلقيه يغوص داخل اللغة قارئا متفحصا بتأمل..محللا باتقان فقرات القص للوقوف على ما خلف الالفاظ من رمزية وشحنة ملتهبة نتيجة العبارة المكثفة بابتعادها عن الاستطراد والاسهاب في الوصف.. اضافة الى مضمون يقبل التأويل بتعدد قراءاته..كونها جنس يمتاز بقصر العبارة وتكثيفها مع ايحاء ونزعة سردية موجزة مع قصدية رامزة باعتماد الانزياحية.. والضربة المفاجأة التي تنطلق وامضة من نهاياتها وهي تبعث الدهشة التي هي مناط السرد وهدفه والتي تضفي جمالية دلالية على النص لما تكتنزه من معنى.. كونها تتسم بطابعها الوظيفي داخل النص ..اضافة الى انها تحدث توترا وانفعالا وتفتح الآفاق صوب عوالم الطموح..باعتمادها الرؤية من الخلف..اذ الراوي العليم فيها هو الذي يتحكم بالسارد المفترض بذكاء وبصيرة ولا ينساق خلفه دون رقابة..



انها تطوير لفن الخبر التراثي باعتماد عناصر القص(حدث ـ شخصية ـ زمكانية ـ حبكة ـ عقدة درامية ـ نهاية مفاجأة(ضربة)..) مع امتلاكها قدرة التكثيف الدلالي الذي يصور عالما تتسع مدياته..صوب التأويل..والقاص يصل الى مبتغاه السردي بتحميل النص عناصره السردية وانتقاء المفردات والعبارات الموجزة وسبكها بفنية تقتضي الرمزية المحركة للخزانة الفكرية ..ومن ثم تحقيق المتعة والمنفعة في نفس المتلقي بتناول الوجود الانساني واشكالاته بمسحة شعرية تنطلق من موسيقى الحركة الاليفة التي تدعو المتلقي لتحقيق ذاته .. بتجاوزه حدود الزمكانية والوصف ..مع رمزية شفيفة تتوالد من خلال التكثيف والايجاز وعبر اهتمام القاص بالزمانية لابراز متغيرات المكان.. واقتناص اللحظة بطريقة اسلوبية تثير الاندهاش وشاعرية تعتمد الاختزال الذي يسبح في عوالم التخييل والتأويل..اضافة الى اعتماد المنولوج الداخلي بتصوير الذات في صراعها مع كينونتها الداخلية..كما في قصة ارسكين كالدويل الامريكي..



( بلغت حرارة الشمس درجة جعلت طائرا يهبط ليتفيأ في ظلي)..ولارنست همنغواي قصة قصيرة جدا بمفردات خمس..



( للبيع .. حذاء اطفال .. غير مستهلك)



بهذه المفردات الخمس يكتب همنغواي قصته التي تمتاز بقصر حجمها ونزعتها السردية التي تحدد معاييرها الكمية والدلالية بحكم التركيز والاقتصاد في المفردات لغرض بناء المقاطع الشاعرة واجتناب الاستطراد والوصف..اذ الحدث والشخصية والفضاء والبنية الزمنية موظفة بشكل موجز ومكثف مع اعتماد المفردة الموحية الرامزة.. وبذا تشكل لقطة مشهدية لاختصار الزمن.. فيها يعتمد القاص على الالفاظ المركزة..الموحية بمعان عدة مع تكثيف العبارة وضربة رؤيوية تنهي السرد .. محددة بمنظور جمالي يكشف عن المسكوت عنه مع ايقاع حاد للرؤيا وقدرة على الاقتصاد اللغوي .. وهذا يتطلب من المبدع البطء والتأمل والتفكير المتوقد من اجل بناء العبارة.. مع وعي لعناصر القص ومقوماته وتدقيق ما يكتبه اذ ان (المؤلف يجب ان يكون قارئا متيقظا الى اقصى حد..) كما يقول باشلار.. اذ عليه ان يتقن لغة المجاز language figure بتنبهه للفظ وفلسفة معناه وعمق دلالته.. كون القص القصير جدا يعتمد الدقة في المفردة الدالة التي تحقق دورها الوظيفي وتركيزها في المعنى والعبارة والتعبير الموجز الحافل بالمضمون والرمز الذي يقبل التأويل..انه فن قائم على الالتزام بالقيم الجمالية والوعي بالوحدة الموضوعية التي هي (وحدة مستقلة ومتكاملة) كما يؤكد ذلك رولان بارت في (درجة الصفر المئوي) والتكثيف والايجاز والايحاء والمفارقة.. كونها ومضة تقف على نافذة ادراك المتلقي كي يعلن من خلال استبطانها فكرة اعلنت ولادتها فصارت خزينا في الذاكرة..باعتمادها الحدث المركزي واللحظة السردية مع تماسك وثراء بنائها الفني ودلالاتها المعتمدة على اللغة الشاعرة المكتنزة خيالا وعاطفة..المترعة بالجمال..القادرة على التعبير والايحاء.. اذ فيها يطرح القاص بلاغه السردي الموجز باعتماد اللمحة الخاطفة التي تمثل خلاصة لفكرة ما.. بلغة مكثفة مبتعدة عن الاستعارات النمطية باختزال الزمن وتكثيف الاحداث مع تكنيك حداثوي معمق الدلالة..


* ناقد عراقي

العـــــودة للصفحة الرئيسة - العدد المزوج 11 و 12


العــــــودة للصفحـــة الام - تكست جريدة شهرية ثقافية مستقلة

تكست: العدد 11 و 12 - في السرد الافتراضي .. صناعة مدينة متخيلة كتب زهير الجبوري


في السرد الافتراضي .. صناعة مدينة متخيلة


(المقامة البصرية العصرية) ـ إنموذجاً ـ


* زهير الجبوري








تقف الكتابة الروائية المعاصرة على مفترق الطرق ، منها ما يتمتع بمزايا الانفتاح السردي عبر نوافذ اللغة السردية المفعمة بالتجدد المضموني ، ومنها ما يفتح نوافذ اللّعب بمخيالية قابلة للتأويل والبناء ، ومنها ما يقوم به الروائي من شهية عالية في اللّعب في منطقة (ما وراء السرد) ، والسمة هذه أنتجت متعة واضحة لدى العديد من الروائيين العراقيين وهم يقومون على بناء شكل سردي / روائي ، كما تدخل التقنيات الأسلوبية في الكتابة الروائية المعاصرة على إنهاض المهارات السردية المخلخلة لنظام النسق المألوف، بغية صياغة شكل له تقنياته الممحورة بما هو مجازي وقابل للتلقي ..








وحين نقف على سلطان الرواية الموغلة بالحس التاريخي ، تشدنا العلاقة الحميمية الى قراءة النتاج الروائي المستخلص من حقيقة لها أبعادها التاريخية والإنسانية والمكانية، أو كما يقول ( د. عبد الملك مرتاض ) : ( لعلها كانت مجرد مرحلة كانت الرواية فيها لا تفتأ غير واثقة من نفسها ، ولا موقنة من جمالها الفني ، وسلطانها الأدبي المثير ، فكنا نلفيها تعول تعويلا شديدا على أحداث التاريخ) (1) . وقد اشتغلت الرواية المعاصرة على استعادة الماضي عبر نافذة اللّغة بكل مكوناتها العلاماتية والنحوية ، وذلك لخلق شكل فني أكثر بروزاً وأكثر حضوراً وتذوقاً ، وهو بحد ذاته يعد ديمومة فاعلة داخل إطار النسق الكتابي الحديث ، وما صرح به (امبرتو ايكو) قائلا (2): إن ماضي الديمومة هو زمن بالغ الأهمية لأنه يشير إلى الاستمرارية والتوتر . فهو استمراري لأنه يخبرنا أن شيئاً ما حدث في الماضي .






ولعل ابرز مقومات الرواية التي تستنشق صفحاتها التاريخية من الماضي ، هي التي تركز على كشف العلاقة المتناظرة بين المقياس التاريخي الذي له أطره الوثائقية الثابتة ، وبين الصياغة الفنية الجديدة لهذا المقياس التاريخي ، بمعنى ثمّة خرق فني في الكتابة السردية / الرواية ، خرق يعتمد على المهارة المقنعة في النتيجة النهائية ، وهذا ما فتح لنا عملية الخوض في تجربة احد الروائيين العراقيين الذين استرخت تجربتهم على قراءة المكان / المدينة عبر زمنية مستعارة ، انه الروائي الكبير (مهدي عيسى الصقر) وروايته (المقامة البصرية العصرية / حكاية مكان) .














ـ 2 ـ

تسعى رواية (المقامة البصرية العصرية) لأن تصوغ الواقع المكاني عبر زمانية تأريخانية مفتوحة ، فلم يجد المؤلف (الصقر) سوى الأسلوب الافتراضي المشبع بدلالات مخيالية صريحة ، وهي لعبة فنية واضحة ، لكنها مقنعة بسبب المطابقة التماثلية بين الماضي البعيد والماضي القريب على جغرافية مدينة لها عمقها التاريخي ، الا وهي مدينة البصرة التي أشار أليها المؤلف في العنوان بـ (حكاية مدينة) ، والشيء نفسه ينطبق على الشخصيات المتناولة ، كلّها لها وجودها وحضورها المعرفي الواضح ، لكن عملية اللّعب بالأشخاص جاءت بمطواعية الروائي لتحقيق قصديه بنائية داخل الرواية ذاتها ..






اللّعبة الإفتراضية في مضمون الرواية ، أحالت القارئ إلى قناعة مجازية .. قناعة إنطوت على ضوابط الكتابة المدركة على متخيلات متكررة في إطار المشاهد وجدلية الأحداث المتداخلة في ثنائية الزمان والمكان ، إنها قبل كل شيء لعبة (ما ورائية) ، فلم تكن البنيات السردية إلاّ أدوات فعلها الروائي بحبكة فنية مقنعة ، فحين أراد (مهدي عيسى الصقر) الدخول الى مدينته بعد غياب سنين عديدة ، جعل استهلالا اوليا ً عبر نافذة (الدخول) قائلا : (من أي باب أدخل إليك ، وأبوابك مشرعة على البر والبحر والسماء !؟) ص5 . استخدم الروائي استحضاره السردي عبر متخيل كاذب ، وعبر تداعيات ممنتجة سردياً ، فكانت الانطلاقة الاستهلالية الأولى على درجة واضحة لفكرة الرواية ، فالروائي يريد ان يكتب رواية داخل روايته هذه ، أو بالأحرى يريد إكمال ما جاء به الإمام أبو القاسم بن علي الحريري البصري من مقاماته البصرية .








ولعل الجانب الأساسي في التركيز على مقامات الحريري واستحضار كاتبها ينطوي على أهميتها التاريخية ودلالاتها المعرفية (من جهة) ، ولكونها كتبت في المدينة التي ولد فيها الروائي ذاته (من جهة ثانية) ، كما ان مقامات الحريري هي التي أصبحت المثال الذي احتذاه من كتب المقامات بعدهم (3) ـ كما تقول سيزا قاسم ـ .

ـ 3 ـ

تسعى تجربة (الصقر) في حكايته ( المدينية) هذه إلى إبراز نسق سردي / حكائي خاص ، نسق يعتمد الوصف بإعتباره مرجعاً له دلالاته المكانية والسيرية ، مما فتح منافذ اللّغة على منطقة أكثر تقبلا وتأويلا ، ربما لأنه على قناعة بأن ما يدور في إطار المكان يخضع لمرونة الزمن بأساليب متنوعة ، فهل هي سيرة خالصة .. أم وصف حكائي لسيرة.. ؟ (جان ريكاردو) يوضح ذلك ويقول : (بما أن الوصف يوقف سير الأحداث ، بعد ان علق الزمن ، أليس من غير المعقول أن يكون هذا الثبات قد أحيته الأساليب المصطنعة ، هذا هو الوصف الحكائي diegetisee وضع حكاية مضللة . وهذا الغش ، كما نعرفه ، هو نتيجة اثنين من الإجراءات الرئيسة . إنشاء لمنظور مرتب بشكل تاريخي وهمي متسلسل chronologique باللّجوء إلى الظروف الزمنية )(4).








من هذا المنطلق يتأسس رأينا النقدي على المرجعية السردية الأولى (مقامات الحريري) بوصفها مرجعاً أوليا ينطوي على تأريخانية مدينة ، ثم الإنطلاق عبر مرحلة زمنية طويلة إلى إتمام ما جاءت به المرحلة الأولى بكتابة المقامة اﻟ (51) للمؤلف المعاصر (الصقر) ، وكأنه يريد القول بأن الوحدات المفقودة بعد (الحريري) ، الآن تدون لتطرح نفسها .. لكن أدوات الكتابة وفنون السرد فيها أجاز الكثير من المتعة الإلقائية وكيفية إحياء الأساليب المصطنعة ..








(مهدي عيسى الصقر) ، وظف أدواته السردية داخل الرواية لبناء شكل كتابي مغاير ، شكل يعتمد الصياغة الفنية الافتراضية ، بطريقة تتشبع فيها الحيوية المتجددة ، خصوصاً ان هناك استوقافات كثيرة انطوت على صياغات مجازية مقنعة ، هذا ما يفتح نوافذ عديدة لحركة السرد الروائي الحديث ..

ـ 4 ـ

المدينة .. (رواية مغايرة)




يقول (بيرمي لبوك) في كتابه (صنعة الرواية) وهو يضع اعتراضاً افتراضياً : (ان أي محاولة لتفكيك عناصر الرواية تؤدي إلى إتلاف الحياة فيها ) (5) .. والمسعى الواضح الذي بان في الرواية المقامية هذه ، تكرس حول إعادة قراءة مدينة وفق تراجيديا فيها الشيء الكثير من الأبعاد المخيالية التي اعتمدها الروائي تحت إطار ما يسمى بـ (ما وراء السرد) ، فهناك العديد من الروائيين الذين صاغوا تجاربهم السردية لمدنهم الفاضلة و بأساليب متنوعة ، و (الصقر) كان حريصاً جداً في تعامله مع اشيائه لكي لا يبعثر وحدة موضوعه ، وكأنه سمع (لبوك) أثناء كتابته الرواية ..








لذلك ، انطوت عتبات الرواية على مناطق (مبأرة) وفق تعدد واضح للاستهلالات المبنية على منافذ للدخول الى موضوعات تشكل جميعها وحدة كاملة وفاعلة ، كانت تسير بتصاعدية واضحة ، انطلاقاً من نافذة (الدخول) ثم (المدينة) ، وصولاً إلى النقطة الأهم (مهرجان المدينة) ثم (المقامة البصرية العصرية) ، كلها تحمل القصدية الفاعلة والمؤثرة في البناء الروائي ، رغم ان أسلوبية الكتابة قد اقنعتنا كثيراً بأن ما يدور في عالم ال (ما وراء) يمكن ان يستحضر ويطبق سردياً ..








وإذا ما أخذنا بنظر الإعتبار ان عملية خلق رواية بمواصفات حديثة يشكل في حقيقته إزالة ما هو مألوف في البناء (الكلاسيكي) ، فإن الاستكشاف والتطبيق يلعب دوراً فاعلاً في إدراك ما هو جديد ، فالعوالم المخيالية التي تدور في ذهنية السارد / الروائي ، تساهم وبشكل فاعل في نتاج فني روائي محسوب ، إذ ( لا يعد خلق الرواية فحسب نوعاً من حلم اليقظة ، بل قراءتها أيضاً ) (6) . وهذا الإتجاه في الكتابة الروائية لم يعد يشكل صدمة مؤثرة مثلما كانت النتاجات الروائية في العقود الماضية ، بل أصبحت أمراً في غاية التقبل ، والسبب الجوهري ، يعود للتقنيات الإعلامية الحديثة ، هذه التقنيات أسهمت وبشكل واضح في جعل الذهني والمخيالي والمرئي ، يجسد بوصفه واقعاً فنياً خاضعاً للمتعة المقبولة ، هنا تكمن مهارة ( السارد / الروائي ) في معالجة وتقريب الواقعي بالتاريخي ، كما فعل (الصقر) ..




ـ 5 ـ

لعل الميزة الأهم التي صادفت الروائي في كتابته للرواية ، انه اسلخ من متنه السردي شخصية محورية ، جسد خلالها مبتغاه المعهود في بناء رواية ذات صفات متجانسة للعديد من الأبعاد المضمونية ، بعد كسر إطار التوقع ، بمعنى ثمّة علاقة حميمية حصلت بين المتلقي والبطل الروائي الذي يتمتع بسيرة تاريخية كبيرة ألا وهو (الشيخ الإمام أبو القاسم الحريري) صاحب المقامات الـ (50) الشهيرة ، (الصقر) ربطنا بإسلوبه السردي الافتراضي منذ البداية واقنعنا بكل ما جاء به من دلالات مجازية شهية ، وكأنه يعلم بأننا أدركنا بأن هناك تطابقاً تاماً بين الواقعي المباشر وبين المتخيل الواسع ، (ذلك ان السرد لم يكن منذ وجد الاّ وسيلة للإيهام بالحقيقة ) ـ كما يقول (د. عبد الله إبراهيم ) ـ ..

في الصفحة رقم (6) تظهر العلاقة الأولى بين الروائي وبين الشيخ الحريري ، وهي علاقة دارت ضمن اطارات مجازية مفعمة بالإحالات القابلة للتداول ، هنا تلتقي الشخصيتان بعد الإهمال الواضح للزمن ، إذ ليس له قيمة في هذه اللّحظة ، (استدرت إلى المتكلم ، وهتفت مسروراً ، وأنا أنهض احتراماً : - من !؟ مولانا الشيخ الإمام أبو القاسم بن علي الحريري ! ) ص6 .








يضاف إلى ذلك ، الحيز الذي أخذته الشخصية المستحضرة منذ بداية الرواية ، لتعطي مفتاحاً واضحاً للدخول الى المبتغى المعهود لقصدية المعنى الروائي ذاته ، حتى ان (رولان بارت) عرف هذه الشخصية بأنها (نتاج عمل تأليفي) ، بعيداً عن جميع الخصائص والمرجعيات الفنية .








ومن صميم الحفر النقدي ، وجد العديد من النقاد بأن التصور العام للشخصية السردية في الأعمال الروائية أو القصصية يجب ان تكون متعددة الوجوه ، اذ تنطوي القراءات على وفق ضرورات تحليلية متناظرة مع الجنس الكتابي ، فحين نتناول شخصية لها عمقها التاريخي والمعرفي مع شخصية معاصرة أخرى ، إنما تدخل في عمق العملية الإبداعية ، وكأن ما قدم سابقاً ويقدم الآن يلتقي في بوتقة واحدة ، وهذا ما أراد أن يبنيه (مهدي عيسى الصقر) في المقامة البصرية العصرية ..






ولأن الشخصية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحدث ، فقد تجسدت مراحل (المقامة البصرية العصرية) على خطوات المدينة المقصودة (البصرة) من خلال العلاقة الوثيقة بين (الراوي/الروائي) والشخصية المستحضرة (الشيخ الحريري) ، بعد التجوال في المدينة والذهاب الى مكتبة الجوهري لصاحبها (كاظم الجوهري) والذهاب الى تمثال السياب والحديث حول تجربته الشعرية وموته في الغربة ، وكيف تنبأت العرافة عن موته الغريب، وأيضاً عن موت محمود الشاعر مقتولا ً ، وعن عزوف الزواج للقاص محمود، وما الى ذلك ..






فتحت الرواية نفسها أمام القارئ لتنطلق صوب بناء عالم له مدلولاته السياقية الولادة للبنى الحكائية ، انها تعتمد الإحالات المسترخية للتكثيف الزمني ، مما سمح باستحضار واستخدام الشخصيات المتناوبة بمرونة واضحة على صعيد البناء الفني ، وإنتاج نص سردي له تعالق كبير والواقع الذي نعيشه ، والشيء الأكثر انتباهاً في مقامات (مهدي عيسى الصقر) ، انه مازج شخصيات من مختلف الاجيال ومختلف الثقافات ، فمثلا عندما يقوم باستدعاء (السياب) وانزاله من تمثاله بدعوة سهر بصرية ، هي التقاطه معبرة عن بناء مشهد روائي يحمل دلالات انزياحية مقصودة ، وهي من اشتغالات السرد الافتراضي .. السرد الذي يقبل البناء على ضوابط مجازية : (قلت له : بدر لم لا تفارق رداءك المعدني هذا ، وتغادر قاعدتك ، وتأتي معي نجلس قليلا في شرفة (فندق جبهة النهر) كما اعتدنا ان نفعل في الاماسي أحياناً ، في تلك الأيام التي مضت ؟ لم يجب .. ظل يفكر .. قلت اشجعه : وبوسعك طبعاً ان تشرب قنينة أو قنينتين من البيرة المثلجة !! قال ضاحكاً وتأكل انت (المزة) كلها ! عرفت أنه سيأتي . طلب مني ان اسبقه . قال انه سيلحق بي عندما يهبط الظلام .) (ص85) .






ـ 6 ـ

المدينة بمنظور سردي






حين ركز الروائي في (مقامته) هذه على ان الرواية تمثل (حكاية مدينة) ، فقد قادنا إلى الغور في أعماق المكان / المدينة ، عبر دلالاتها المعاصرة والمكونة ، لنجد تفاصيل متداخلة لمركز المدينة وبقية الامكنة المجاورة لها بعد سياحة منتظمة يقوم بها الروائي برفقة الحريري ، لتشكل في مضمونها عملية كشف واضحة في الحضور السردي الافتراضي الذي قصده (الصقر) ، نحو التركيز في السياقات المخيلة لإستحضار ما يمكن استحضاره في النص السردي الحديث ، فعند الوصول إلى (ابي الخصيب) وجد الشيخ الحريري مخلفات الدمار والنخيل المقطعة رؤوسها

قال حائراً : ( ما الذي جرى هنا !؟ ) :






- الحرب يا مولانا ! (ص99)




صحيح ان الوصف هنا جاء (منظوراً) لمكان معين ، لكنه يحمل قصدية دقيقة للضيف / المستحضر ، بمعنى ثمة تمفصلات جديدة ظهرت في المدينة (البصرة) لم تدخل إحصائيات الحريري في مقاماته المألوفة ، فالحرب ومظاهر الخراب وغيرها من التفاصيل تحتاج إلى تدوينية جديدة أو مقامة جديدة ، فهل يعد ذلك احصاءاً قاطعاً ، (فاليري Valery) كتب يقول : (ان كل وصف يقتصر على إحصاء أجزاء أو مظاهر عديدة لشيء منظور) (7)


ولا نريد التركيز على عناصر الرواية من حيث استهلالها بقدر ما نريد التركيز على المكونات الأساسية التي اشتغل عليها ، فكل رواية لها ضوابطها الفنية ، لذلك تقف المدينة في ( المقامة البصرية العصرية) على عتبات مكانية منضبطة ، في الوقت الذي تنوعت فيه عناصر الشخصيات المنتمية لهذا المكان ، مما يعطينا قناعة تامة فحواها ان المدينة ميدان واضح للّعب السردي ، ذابت في مكامنها كل الوظائف والاليات والافكار المغروزة في المتن المكاني ..

ولكن كيف يمكن ان نصف مدينة لها خصائصها المكانية الحساسة في عالم الرواية ؟ .. كيف نعطي لها أدواراً فعالة داخل إطار المتن السردي ؟ .. كيف يصبح الإلمام بالجوانب المؤثرة فيها من حيث مكوناتها الجمالية ؟ .. (على الكاتب ان يلم بكل جوانب المكان ، لغته الآتية من الأثر ، وصوره المتخيلة ، وادراكاته ، وأبعاده الدينية والطقسية المستعادة، وتأريخه ، ومكوناته الاجتماعية ، وعلم نفس المكان ، وتراكيب بلاغة صوره ، وطبيعة الناس الشاغلين له ) (8)








عملية كشف الأماكن من قبل (المؤلف / الروائي) ، هي عملية تمرير مسترخية للشخصية المستحضرة وللمتلقي معاً ، هدفها الأساس يظهر في النهاية ، وكأنه ـ أي الروائي ـ يريد ان يبرهن أن المقامة التي كتبها انطوت على الشواهد المسرودة ، وجاءت على قناعة تامة مع متعة الوصف وطريقة سرد الأحداث التي تشبعت بشفرات مجازية ، ثم كشفت الأحداث عن أهم مكونات المكان ومسمياته ، وكذلك اللّهجة (الدارجة) أو العامية ، وأيضاً الزي الذي يرتديه الناس في الوقت الحالي ، بالإضافة إلى العادات والتقاليد الاجتماعية المعاصرة ، كلها أعطت انعطافة أساسية في بناء الفقرات الروائية (المبأرة) ، مع الاعتراف بأن الاشتغال على العلامات المتحررة ، قد استحدث دلالاتها عبر أسس تجريبية هيمنت على البناء الفني من خلال إقحام فقرات الرواية بشتى أدوات الكتابة البيانية في (السجع) و (الإيقاعات المرادفة) خاصة في الفقرة الأخيرة من كتابة المقامة ، وأيضا كان لإمتزاجها مع الكتابة السيرية الدور الفاعل في إبراز العديد من الخيوط المتداخلة للماضي بكافة مراحله ، والحاضر المعاصر بكل دقائقه ..








ففي فقرة (رحيل آخر شاعر !) ، تنهض ذاكرة الأشياء في مكتبة (كاظم الجوهري) بعد استحضار رسومات الواسطي الذي يضم شخوص المقامات الحريرية ، وهي انعطافة مهمة لخلق نمط كتابي بإفتراضية سردية من هذا النوع : ( نهض الشيخ كاظم وقصد أحد الرفوف ، استل منه كتاباً متوسط الحجم . هذا يا شيخنا كتاب رسوم الواسطي ! فتناوله ضيفي من يده متلهفاً ، وراح يتأمل الرسوم معجباً) (ص53) .








لكن قراءة اوراق الشاعر الراحل (أحمد) الذي فارق البصرة وضيع نفسه ، فيها شيء من (الكولاج) داخل الفقرة هذه ، على الرغم من بنائها المتوازن ، إلاّ انها عكست مشهدية متناظرة مع ما أراده الحريري في مكتبة الجوهري .

ـ 7 ـ

( المدينة وصوت الشعر )





حين يتركب العالم المتخيل في الرواية (المدينية) اثناء تطبيق خصائصها المنتجة فيه ، تدخل في اطره العديد من الدوائر التي تتفاعل وتنتج خطاباً ثقافياً (موضوعياً) له ضوابطه الراكزة ، فالمدينة نظام شامل لكل الأحداث ولكل الدلالات الفاعلة في (السسيوثقافي) و (السسيوسياسي) ، واذا ما اخذنا بنظر الاعتبار ما تقدمه (المقامة البصرية العصرية) من خيوط متمركزة على الخصائص النادرة ، فإنها تتيح القدرة على إقتناص الأحداث وفق استرسالاتها المتعاقبة والمفتوحة على نوافذ متفاعلة .. انها نوافذ محبوكة ولها تأثيراتها المباشرة ..






في فقرة (مهرجان المدينة) ، حيث تقام انشطة المهرجان في منطقة (العبلية) وسط أجواء الريف والنسمات الباردة في بستان الأستاذ محمد جواد جلال ، وظهور أجواء الاحتفاء بالضيوف ، حيث (شاهدنا أيضا مجموعة من الأطفال ، بناتاً ، وأولاداً ، من تلاميذ المدارس الابتدائية ورياض الأطفال ، بثياب ناصعة البياض ، معهم ثلاث معلمات يحاولن جعل الصغار يمشون في شيء من النظام ) (ص138) . نلاحظ كيف أعطى السرد الروائي مرونته بمهارة واستخلاص ، ثم الإلحاح في عملية الاستدعاء المتكررة للشخصيات ، حيث يفتح السرد نفسه أمام (افتراضات) المؤلف ، ليحضر الصحابي الجليل مؤسس مدينة البصرة (القائد العربي الكبير عتبة بن غزوان) ثم يبدأ المهرجان بتفاصيل مألوفة ، والشيء نفسه في فقرة (أمسية الشعراء) عندما يستدعي عريف الحفل (الجليل الخليل بن احمد الفراهيدي ، العلامة الذي شق للشعراء بحوراً يبحرون فيها ) (ص180) وأيضا ( رموز شعراء البصرة الأوائل الحسين الضحاك وبشار بن برد والشاعر المشهور أبو نواس الحسن بن هاني ، ومن شعرائنا في هذا العصر بيننا أسماء تعرفونها : معنا سعدي يوسف ومحمد سعيد الصكار وكاظم الحجاج والشاعر كاظم نعمة التميمي) (ص180) . لتقرأ بعدها النصوص ويقام الاحتفال بهذه التراتبية ..





ولعل صوت الشعر والتركيز عليه في كتابة تاريخ المدينة ، ينطلق من مبدأ العمق الكبير والملموس في صناعة الشعر العربي عبر المراحل الزمنية لقرون عديدة وصولا إلى المجدد (السياب) والى يومنا هذا .

ـ 8 ـ




المدينة والمقامة

نستخلص في المحطة الأخيرة للرواية المقامية هذه ، تجربة المؤلف وهو ينتج بمهارة فاعلة وراكزة المقامة الـ (51) ، وقد عكست في مضمونها الأحداث التي جرت بعد وفاة الشيخ الحريري ، فكانت محطة نصية (مسجعة) ، فالمقامة هي لعبة لغوية ومهارية ، هدفها الكشف عن (سيرة) أو (مدينة) أو (حكاية) ، الخ .. بمتعة العروض المشهدية عبر لغة لها ثراؤها الممتع ، وقد أتفق العديد من الباحثين في هذا المجال بأن (المقامة حكاية عربية مسجعة ، مثقلة بالمحسنات البيانية ، والفوائد اللغوية الأدبية والأحاجي النحوية) ..






وتأتي التبريرات السردية من داخل الرواية ذاتها ، بأن (مهدي عيسى الصقر) قدم هذه (المقامة) هدية للشيخ الحريري بمناسبة مرور أربعة عشر قرناً على تمصير مدينته (البصرة) ، وهي تحمل دلالات فنية قائمة على قصدية كتابة المقامة ، بمعنى هناك تماثل موضوعي في ما جاء به الشيخ الحريري والروائي الصقر ، تماثل ذكي ومقنع ، وكأن الافتراضية (المجازية) لكتابة المقامة الاخيرة تشكلت بين الطرفين ، ونشعر أحياناً بأن (المونتاج) السردي ، واضح المعالم ، وان استحضار كل ما في بطون الكتب والمصادر الاخرى بطريقة فنية ، قد ساهم في صناعة المقامة الأخيرة ، وما على المتلقي إلاّ ان يستمتع بما قدم من فن كتابي صيغ بإفتراضات سردية واضحة .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



(لهوامش ) ـ

ــــــــــــــــــــــ

1) د. عبد الملك مرتاض / في النظرية الروائية / بحث في تقنيات السرد (ص31) / عالم المعرفة

2) امبرتو ايكو / 6 نزهات في غابة السرد / ص34 .

3) سيزا قاسم / القارئ والنص (العلامة والمدلالة ) ص135 .

4) جان ريكاردو / ت : كامل عويد العامري / القضايا الجديدة للرواية (ص37) .

5) حميد الحمداني / بنية النص السردي / (ص14) .

6) مايك بوتر / ت : خالد شاكر / الثقافة الأجنبية / العدد الأول 2009 / (ص54) .

7) المصدر الرابع نفسه (ص41) .

8) ياسين النصير / المكانية في الفكر والفلسفة والنقد / كتاب حواري من قبل (زهير الجبوري) (ص43-44) / دار نينوى للطباعة والنشر / دمشق 2008 .




* ناقد عراقي

العـــــودة للصفحة الرئيسة - العدد المزوج 11 و 12


العــــــودة للصفحـــة الام - تكست جريدة شهرية ثقافية مستقلة